سعدي يوسف من لندن : ليس في الفن تجاوز طباعة

Imageأنا متعب أكثر ممٌا تتصور.
كانت هذه العبارة خاتمة لحوار طويل مع الشاعر سعدي يوسف...
فلم يكن صاحب (الأخضر بن يوسف) يريد أن يفصح عن نفسه كثيرا، يحيط حياته بسياج محكم... ونادرا ما يتحدث عن تجاربه !
أرسلت إليه أسئلتي وسميتها دفعة أولي... أجاب على ما شاء منها...عن حياته والقصيدة والسجن والسياسة....
وعندما أرسلت إليه الدفعة الثانية وكانت عن المنفى.... أختار أن يتحدث عن هذه التجربة كما يكتب الشعر، بجمل قصيرة و عبارة مكثفة واضحة المعنى ولكنها قابلة للتأويل، لذا سنفهم منه مثلا أن بيروت مدينة صعبة... لكننا لا نعرف لماذا ؟!
ربما كانت إجاباته المكثفة منسجمة مع حالته ومع الوضع العام،

إذ ما فائدة الكلام....وما فائدة القصيدة... بل وما فائدة الحياة نفسها ؟!
وربما أيضا لأن الحوار جرى بالبريد الإلكتروني أو ( الآلة)... التي لا يتيح العمل عليها تواصلا حقيقيا أو حديثا متدفقا !!
مع إجاباته الأخيرة كان رجاء منه : آمل في أن يكون هذا خاتمة المطاف !
ولكنه لم يكن، طلبت منه أن يجيب على سؤال يضعه بنفسه فاختار أن يتحدث عن القصيدة وكيف تأتي ؟!
... انتهى الحوار وظل كثير من الأسئلة التي فجرتها إجابات سعدي معلق الإجابة!
****
بلغت السبعين... ناضلت طويلا و تنقلت كثيرا بين بلدان شتٌى، عربية وغربية.شهدت حروبا، وحروبا أهلية، و كتبت شعرا وقصة ورواية ومسرح وترجمة...كيف تنظر إلى رحلة السبعين التي قطعتها ؟
لا يملك المرء أن يستبدل بحياته، حياة أخرى : هكذا يحاول قدرَ الإمكان أن تكون حياته ذات جدوى، لنفسه، ولمن حوله. لكنٌ الجدوى المرتجاة لن تأتي إنْ لم يكن للمتعة نصيب، بل نصيب وافر. أنا أستمتع بحياتي، وأعتني بالمطعم والمشرب والملبس. أسعد بالمرأة، وأسعِدها إنْ اقتربتْ من فهمي. حياتي، أعني حياتي اليومية، ملأى.
والطبيعة تمنحني قوٌة داخلية. أنا لا أشكو من وهَن أو علٌة. لكنٌ سؤالا يظلٌ يلحّ عليٌ باستمرار، ومنذ أمَد : أليست إقامة البشر على هذه الأرض ضربا من اللامعنى؟
بداية من اسمك ( سعدي )... هل لك من اسمك نصيب؟ هل ترى في اختيار الاسم دلالة؟ هل الاسم حجاب كما يقول المتصوفة؟ هل ترى أن ثمة علاقة بينك وبين الشاعر الفارسي الشهير الذي يحمل الاسم ذاته؟ هل حكى لك أحد من والديك لماذا أطلقوا عليك هذا الاسم؟ لو أتيح لك أن تختار اسما غير هذا يعبر عنك ويتوافق مع مسيرة حياتك ما هو ؟
فهمت من المرحوم، شقيقي، يعقوب، الأكبر سنٌا، وكان يرعاني بعد فقدِ الأبِ مبكٌِرا، فهمت منه أن اسمي كان في الأصل: محمد سعدي يوسف، لكن التعليمات المستحدثة آنذاك حول تسجيل الناس منعت الأسماءَ المركٌبة، فصار اسمي سعدي يوسف. قرأت سعدي الشيرازي في وقت مبكر جدا، قصائده التي كتبها باللغة العربية، مقلٌِدا المتنبي وقصائده المترجمة عن الفارسية وهي الأجمل، قرأت حافظ الشيرازي أيضا، وأعجِبت بالشاعرين، حتى قصدت مدينة شيراز، حيث ضريحهما يتوسط المدينة، محفوفا بالورد (بستان الورد) ! قبل نصف قرن كان هذا. وفي شيراز نبيذ أحمر مائل إلى الحلاوة، ذكره أوسكار وايلد في عمله (بيت رمٌان). ابنتي الصغرى سميتها شيراز. إنها: شيراز سعدي !
ماذا عن البدايات منذ ميلادك في أبي الخصيب بالقرب من البصرة....ما الذي أضافته لك هذه المدينة؟ وماذا عن الأسرة التي نشأت فيها، ما هي الروافد التي شكلت تجربتك الإبداعية؟
لم تكن أبو الخصيب مدينة. ولم تصبح مدينة حتى الآن، بسبب قربها من ساحات المعارك غير المجدية، واقتصار التنمية والتطوير حتى في الحدود الدنيا التي عرفناها، على العاصمة وتكريت. لكن البلدة كانت ذات أهمية سياسية وفكرية، كانت مركزا لحركة الاجتهاد، حتى لقد زارها جمال الدين الأفغاني. كما كانت من معاقل اليسار.
وفي أبو الخصيب جمال الطبيعة: غابات النخل والجداول التي تتخللها. الماء حاضر، يحمل الأعناب والسمك إلى عتبات البيوت. بين حين وآخر أرى صورا لما حلَّ بالنخل، كيف تقصٌفَ وتراجَعَ، وصار أعجازا خاوية، فأحزن حقا لأن صورة من الطفولةِ مزٌِقتْ بهذه القسوة البالغة. أسرتي كانت في منتهى التسامح. أي أنها لم تفرضْ على أي فرد فيها اختيارا. كنا نقرأ ما نشاء، ونتصرٌف بحرية. الطبيعة كانت رافدي الأول. قراءاتي الأولى كانت في المسجد، وفي التكيٌة النقشبندية بأبي الخصيب. هناك اطٌلعت على رسائل إخوان الصفا.
من هم آباؤك الشعريون ؟
أبونا جميعا، وحامل لوائنا إلي النار (كما يقال) هو امرؤ القيس. وكما هي العادة في بدء المسيرة، نبتدئ بامرئ القيس، وهكذا فعلت. اكتشفت أن الرجل جميل، مغامر، ميسَّر حتى في اللغة. تعلمت عروضَ الشٌِعر العربي من ميزان الذهب الشهير لأحمد الهاشمي، وطبٌقته على ديوان امرئ القيس. كانت المتعة والمنفعة بلا حدود ! ومتزامنا مع امرئ القيس كان المتنبي العظيم. وفجأة أطلَّ عليّ محمود طه، وجاء إلياس أبو شبكة مع (أفاعي الفردوس)، ثمٌ جاء ديوان (أين المفرٌ ؟) لمحمود حسن إسماعيل، أنيقا بالأصفر والأسود من شركة فنٌ الطباعة:
ألقيتَني بين شِباكِ العذابْ
وقلتَ لي : غَنٌِ
وفي أيام لاحقة جاء بدر شاكر السياب. إنه ابن أبي الخصيب، ونحن من قريتين متجاورتين: هو من جيكور التي خلٌدها، وأنا من بقيع المتٌصلة بجيكور، وبين أسرتَينا معرفة ونسب. كان بدر مرموقا بقصائده المبكرة التي كانت تلقى في التظاهرات. الحق أن بدرا اللاحقَ كان الأعمقَ تأثيرا فيّ. وأنا حتى اليوم، أري أنه قدٌمَ أسئلة في القصيدة لم يجب عنها بعد. سيظل بدر معلٌِما لي.
من المفيد أن أذكر أنني كنت أمتلك طبعة من الأعمال الكاملة لشكسبير باللغة الإنجليزية منذ أواخر الأربعينيات.
كيف استطعت أن تتجاوز هؤلاء الآباء لتصل إلى صوتك الخاص؟ وهل كنت واعيا منذ البداية بفكرة التجاوز، أي كنت مخططا لها؟ أم أن الأمر جاء بلا تخطيط؟ هل كنت تعي أنك تمهد لأرض بكر أو تشق مجرى جديدا في الشعرية العربية يختلف عن تجارب من سبقوك : السياب ونازك والبياتي على وجه التحديد؟
ليس في الفنٌ تجاوز. في الفنٌ إضافة جهد. الفنٌ لا يتجاوَز. الفنّ يخدَم. ومهما فعلتَ فلن تبلغ من الفن إلاٌ التخومَ. لنتواضعْ إذن.
ماذا فعلت؟ لقد فكٌرت، حقا، في تناول خاص، شخصيٌ، فرديٌ، وهذا حق لكل فنان. قلت مع نفسي: هذه الخارطة الشعرية العربية عمرها أربعة عشر قرنا، ولسوف أضيع فيها إن لم أجد لي سبيلا خاصٌا. أين وجدت ضالتي؟ في عموم الشعر العربي، لم يكن للفرد العادي نصيب من النصٌ الشعري. كانت القصيدة للمجموع. الفرد غائب أو مغيَّب. إذا هي فرصتي !
لأتحدٌثْ عن الإنسان البسيط في حياته اليومية، لأتابع المنسيَّ، والمهملَ، والمسكوتَ عنه، لأكنْ بسيطا. لتكن لغتي متساوقة مع هذا المبدأ. كانت نازك الملائكة الأكثر بحثا في الشكل الشعريٌ. عبد الوهاب البياتي ركب الموجةَ متأخرا. ولم يكن ذا جهد مرموق في تطوير الشكل الشعريٌ. نازك ظلٌت المؤهٌلةَ لذلك بعد الرحيل المبكر والفاجع لبدر، لكنٌ إقامتها في الكويت أضرٌتْ بها، وجعلتها تنكفئ وتتخلٌى عن ثوريٌتها التي استلهمناها جميعا. التقيت بها مرة في بغداد، قادمة من الكويت، كنا في أحد فنادق الاستضافة، وكانت محجٌبة، بينما كنت أحمل في يدي كأسا. تخليت عن الكأس احتراما لها. قلت لها : يا سيدتي نازك أنتِ علٌمتِنا انتهاكَ المحرٌمات (أقصد في فن الشعر ). ردٌتْ عليَّ : أستغفر الله !
عليٌ الإشارة أيضا إلى التأثير المبكر للشعر الأميركيٌ عبر والت ويتمان في أوراق العشب، وإلى عموم فن القصة الأميركي في التشكل النهائي للنصٌ الشعري لديٌ. أنا أعتبر القصة القصيرة الأميركية الأنموذجَ الأعلى ليس في فنٌ القَصٌ فقط.
هناك أمر جدير بالتنبيه إليه وهو: احترام الواقع والوقائع في النص الشعري. أنا تعلٌمت هذا الاحترام وطبٌقته (بقسوة أحيانا) مستفيدا من القصة الأميركية القصيرة. قد يعتبَر هذا المورد إشارة إلى تداخلي في الفنون الأدبية (فنون القول)، وهو تمهيد إل ما سيجري من تداخل لاحقاً بين النص الشعريٌ لديٌ، وبين فنون أخرى ليست من فنون القول، كالرسم والموسيقي والسينما .
ارتبطت في بداياتك بمجلة (شعر) البيروتية... كيف تقيم الآن تجربة هذه المجلة ودورها في تحديث الشعر العربي؟
العدد الأول من مجلة (شعر) حمل في صفحته الأولى قصيدة لي، وكنت شاعرا مجهولا تماما، لا أعرف أحدا، ولا يعرفني أحد، لكنهم، أعني يوسف الخال تحديدا، نشروا قصيدتي، ومنِع العدد بسببها من دخول العراق. دور مجلة (شعر) كان تحديثيا وأساسيا. لِمَ جرى ما جرى ؟ الاتهامات والاتهامات المضادٌة، حين نراجع اليومَ، ما حدثَ أمسِ، نأسى لأنٌ المنافسات المحدودة أعطِيَتْ صفة عالية من المبدأ والمنطلَق. العروبة وأعداء العروبة.. الخ. لم يكن الأمر هكذا، بإطلاق.
ثمة عديد من التجارب التي مررت بها مثل تجربة السجن... رغم قسوة مثل هذه التجربة... هل تحدثنا عنها ؟ وعلى أي مستوى أفادتك؟
تجربة السجن بدأت زمن الجمهورية الأولى، أعني زمن عبد الكريم قاسم. شاركت في تظاهرات لإيقاف القتال في كردستان، وكان الشعار الذي صاغه الحزب الشيوعي هو : السلم في كردستان، يا شعب طَفي النيران !
ثم جاء البعثيون في 1963، وقدٌموني إلى محكمة عسكرية، وحكِمَ عليٌ بالسجن. تنقلت في سجون عدة، سجن البصرة، سجن نقرة السلمان الصحراوي على الحدود العراقية السعودية، عند بادية السماوة التي قتِلَ فيها أبو الطيٌب المتنبي، ثم إلى سجن بعقوبة. أطلِقَ سراحي مصادفة، ليلةَ انقلاب عبد السلام عارف على العبثيين في 1963. كان حسين مردان الشاعر الصديق، صديقا لعلي صالح السعدي، نائب رئيس الوزراء، والشخصية البارزة في الحكم، وفي التراتبية الحزبية البعثية، وسأله علي صالح السعدي إن كان هناك شعراء لا يزالون سجناء. ذكر حسين مردان اسمي، فصدرت برقية فورية بإطلاق سراحي. وردت البرقية إلى سجن بعقوبة مساء.
استفسرت مني إدارة السجن إن كنت أريد الانتظار حتى الصباح لآخذ ملابسي وبعض المال المودَع، قلت: أذهب الآن ! وهكذا خرجت من السجن بالبيجامة إلى بغداد حيث اتصلت بأقاربي ليتسلٌموني من مديرية أمن بغداد. لو تأخرت يوما لبقيت في السجن عشر سنين.
ملحوظة: حين توفى علي صالح السعدي، مغضوبا عليه، زمن صدام حسين، حضرت مجلس العزاء، امتنانا له. كان نصّ البرقية كما أتذكره الآن، بالرغم من كل لعنة السنين: يطلَق فور سراح الشاعر التقدمي سعدي يوسف.
أنا مَدِين للسجن !
لقد تعلٌمت في السجن أمورا كثيرة، منها الاعتماد على النفس، والاكتفاء بالقليل، واحترام خصوصية الآخر. وممارسة أفعال قد تبدو غير مناسبة كأن ترقع نعلك بنفسكَ أو ترفو جوربكَ وسوى ذلك 'يقال إن المرءَ يعرَف على حقيقته في السجن وفي الترحّلِ. في السجنِ تنظر إل الداخل، داخلكَ. وفي الترحّلِ تنظر إلى الخارج، خارجِكَ. وأنت في الحالَينِ حاضر.
في أكثر من مكاني وقارة، أكون مع قاسم حدٌاد، الشاعر، والسجين السابق، مثلي. أشكو له هذا الأمرَ أو ذاكَ. الغرفة في الفندق غير مناسبة، أو الاستقبال في المطار لم يكن في موعده، أو أن الطعام ليس شهيٌا... الخ. جواب قاسم الدائم الذي لم يتبدٌل مع السنين : لكنْ.. أحسن من السجن !
تماماً، يا قاسم، تماماً.. أحسن من السجن !
هل أحِنّ إلى السجن ؟
كنت شيوعياً في سن مبكرة، ما الذي قادك إلى الشيوعية.... على أي مستوى أفادتك تجربة العمل السياسي؟ وهل الشاعر ينبغي أن يكون ملتزما أم أن الالتزام يحد كثيرا من تجربته الإبداعية؟ ما هو تقيمك لتجربتك مع الحزب الشيوعي العراقي؟
شيوعي في سنٌ مبكٌِرة !حقا ' كنت في الخامسة عشرة حين انضممت إلى الحزب الشيوعي العراقي. الدوافع: الفقر والمغامرة. ليست لي تجربة في العمل السياسي. اعتنقت الشيوعيةَ منطلَقا في الحياة، تحوَّلَ مع الزمن والممارسة إلى منطلَق في الفن، أي أن نظرتي إلى قضايا فنية صِرف مثل الصورة وتناول التاريخ والخصيصة اللغوية والاتصال تستمدّ الكثير من الفكر الماركسي. التزام الشاعر هو التزام أخلاقيٌ.
وكما قال أفلاطون : الأخلاق قبل السياسة. تجربتي مع الحزب الشيوعي العراقي عاديٌة، بمعنى أنني لم أخضْ في إشكاليات تنظيمية أو فكرية لأنني لم أكن عضوا بالمعني التنظيمي الدقيق إلاٌ فترة قصيرة جدا. ولست مَعْنيٌا الآنَ كثيرا بمتابعة الجدل القائم حول ما يفعله الحزب الشيوعي في العراق هذه الأيام. وعلى أي حال، سأظلّ الشيوعي الأخيرَ في عالَم يزداد قسوة.
(المنفى المحترف) يصلح الوصف بامتياز على سعدي!
ففي 1957 كان خروجه الأول إلي الكويت و1964 لجأ إلn الجزائر...وفي 1979 لجأ إلn بيروت ثم إلn الجزائر مرة أخرn...وأنتقل إلn عدن فدمشق وروسيا وباريس وقبرص وبلجراد وتونس قبل أن يستقر لفترة في العاصمة الأردنية (عمان) التي تركها لاجئا سياسيا في لندن !
في كل مرة كان سعدي يتصور أن هذا المكان أو ذاك هو منفاه الأخير ولكن لم يحدث ذلك إلا في لندن حتى الآن حيث يرى أن سنوات المنفى العربي كانت (كالمستجير من الرمضاء بالنار ).
سألته:بعد هذه الرحلة الطويلة من المنافي الممتدة هل وجدت في لندن، مستقرا لك، أم أنها محطة أخرى مؤقتة على درب هجرتك الطويل؟
أعتقد أنني حططت الرحالَ هنا في لندن. لم تتبقَّ أماكن كثيرة للذهاب. لقد ضاق بنا العالم.
خلال هذه المنافي المتعددة... كيف توصلت إلى حالة التوازن في الكتابة بين الوطن والمنفى؟
التوازن في الكتابة متعلٌِق بالحرفة والاستعداد. لست متوازنا على الدوام. لكني توصلت منذ أمَد إلى أن حياتي الطبيعية هي خارج بلدي. في بلدي لم أكن أشعر بالحرية مطلقا. كان التهديد مستمرا، متراوحا بين الحدٌ من حريٌتك ووضع حدٌ لحياتك.
هل ثمة مدينة من مدن المنفى المتعددة استعصت عليك أو عاندتك لم تعطك سرها...كيف تستطيع أن تمتلك مفاتيح هذه المدن ؟
أعتقد أن بيروت من أصعب المدن.
ما الذي أضافه المنفى إلى قصيدتك ؟ وهل تظن أن اهتمامك بالتفاصيل الصغيرة يعود إلى هذه التجربة (التنقل والترحال) ؟
المنفى أضافَ إلى حياتي. الاهتمام بالتفاصيل كان جزءا من مقاربة للشعر. ليست للأمر علاقة بالمنفى.
هل روض المنفى أن يكون لديك رغبة في امتلاك شيء ما وليكن كتاب تعشقه أو تحبه؟ وهل أعاقك مثلا من أن يكون لك مكتبة تعود إليها؟
دائما أكوٌِن مكتبة وأتركها، حتى لقد أطلقت على المسلسَل: لعنة المكتبة. الآنَ لديٌ مكتبة أيضا. الفارق أن كتبها باللغة الإنجليزية، ولا تضمٌ إلاٌ القليل من الكتب العربية. ربما انتهت اللعنة!
هامش خارج الحوار:
تحت عنوان (المكتبة الملعونة) كتب سعدي في أوائل الثمانينيات مقالا طريفا ومؤثرا، نشره في كتابه (يوميات المنفي الأخير) يستدعي فيه ذكرياته مع مكتباته المختلفة التي ما إن يشرع في الانتهاء من تكوينها حتى يفاجأ بأن عليه أن يغادرها.... يكتب: (قبل أيام، اشتريت مطرقة ومنشارا وحفنة مسامير. وقد كنت جمعت من علية الشقة ومن سطح العمارة، ألواحا، بعضها جديد، وبعضها مسود من المطر الشمس. اتخذت الشرفة مشغلا، وبدأت أصنع مكتبة... والحق أن ما صنعته يداي، لم يكن الشيء الذي توهم به كلمة مكتبة.... بل كان رفوفا هزيلة مترنحة، لا أدري كيف انضمت إلى بعضها، وتضامت وكيف نهضت متعمدة على نفسها، وكيف تحملت ما ألقيت عليها من كتب...
المهم أن هذه الرفوف الهزيلة المترنحة انتقلت بكتبي من أرضية الغرفة إلى مستوى آخر، ووهبتني الإحساس اللذيذ بأن لديّ مكتبة أو ما يشبه مكتبة، لكن ابنتي حين دخلت الغرفة، خرجت ضاحكة مني ومما صنعت.... قائلة أن هذه الرفوف سوف تهوي على رأسي يوما من الأيام.
أتراها لعنة المكتبة ما تزال تطاردني ؟
أم هي اللعنة التي ما تزال تطارد مكتبتي؟
عام 1957 كانت لدي مكتبة، اخترت كتبها، متأنيا، طوال سنوات دراستي الأربع في الكلية، وخلال سنوات عملي الثلاث، ومازلت أتذكر بعض ما فيها: دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، والإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، والمؤلفات الكاملة لشكسبير في مؤلف واحد، طبعة حسين مؤنس لديوان أبي تمام... هذه المكتبة الأولى فارقتها، حين غادرت وطني إلى المنفى، عام 1957.ومن جديد، أجمع مكتبة....أجمعها في هوس وحمى، وأتذكر أنني اشتريت يوما حمولة عربة خضار، كتبا إنجليزية... لقد تضخمت مكتبتي فجعلت لها فهرسا، ورقمت كتبها، وكانت لها غرفة خاصة.
ويلقي علي القبض ويفتش منزلي، وتغدو المكتبة عبئا على ذوي...
كان ذلك عام 1963.
الكتب تطعم تنور الخبز بالوقود الجزل، والجدول الصغير قبالة بيتنا، يحمل حين يمتلئ بمياه المد، الكراريس والكتب الصغيرة، والأوراق التي تضم محاولاتي المبكرة في الشعر، تلك المحاولات التي لم أنشرها، ولن أنشرها، لكنها كانت ستفيدني يوما ما في مراجعة بداياتي والتعرف على مصادر شعري.
عام 1964، التجئ إلى الأرض الجزائرية، أدرس في ثانوية بمدينة سيدي بلعباس، في الغرب الوهراني.
واجمع، ثالثة، أصول مكتبة، وأهيئ لها رفوفا. إن جمع مكتبة في ظروف الجزائر، آنذاك، عمل غير هين، بسبب ندرة الكتاب العربي، وغياب الكتاب الإنجليزي....
لكني احتفظت بدأبي.
كنت أقضي أوقاتا طويلة في المكتبات الفرنسية. وأقلب كتب الأرصفة، لأعثر بعد طول تقليب وتنقيب، علn كتاب إنجليزي، قد يكون مسرحية لشكسبير، أو رواية بوليسية لأجاثا كريستي... وأدرس اللغة الفرنسية، فينضم إلn مكتبتي مخلوق جديد هو الكتاب الفرنسي. وأغادر الجزائر في أواخر عام 1971... ما تراني صانعا بالمكتبة؟
قلت: أهديها إلى صديق...
لكنني أهديتها، أخيرا، إلى مكتبة الثانوية التي درست فيها تلك السنين بين 1964 و1971...ثانوية الحواس.
في بغداد 1971، بدت لي الأمور، للوهلة الأولى، أكثر مدعاة للاستقرار، أي أكثر مدعاة لتكوين مكتبة معتبرة.
هكذا خصصت حجرة للمكتبة، وأوصيت نجارا بعمل خزانات لكتب، وأثثت الحجرة بمكتب وكرسي عمل، ومستلزمات أخرى....
وشرعت أجمع الكتب. لكنني قررت أن تكون مكتبتي، هذه المرة أكثر تخصصا.... مكتبة شعر وما يدور حول الشعر من نقد وتاريخ وسيرة.
وتمتلئ الخزانات والرفوف...
في أوائل 1979 أغادر الوطن، طلبا للحرية... وفي أسابيع قليلة ينهار كل ما بنيته طوال ثماني سنوات... وتنهار المكتبة أيضا. لكن انهيار المكتبة كان الأصعب. فالأثاث يمكن بيعه... ولكن من يشتري الكتب؟ بل من يقبلها هدية أو أمانة؟
كان الكتاب كالعقرب. لا سبيل إلى التخلص من المكتبة إلا النار.....
وترتفع الحرائق الصغيرة، محاطة بالتوجس والخوف... والكتاب..كما نعرف، لا يحترق بسهولة الوقود.
عدت إلى سؤاله : ماذا عن متعلقاتك الشخصية، صورك، أشياءك الحميمة هل كنت تتركها بسهولة؟
الصور، الرسائل، الشهادات .. الخ، تضيع وتتبدد. أواخر 1968 حين غادرنا عدن تحت الرصاص المنهمر، في رحلة أسطورية عبر البحر الأحمر، سقطت أوراقي وأوراق أسرتي في البحر (كانت في حقيبة صغيرة)، وهكذا وجدت نفسي فجأة بلا ورقة ولا هوية ولا شهادة ميلاد.. ولا .. ولا . لست أدري كيف دبرت أموري في ما بعد ! أنا حتى الآن بلا أي وثيقة، سوى وثيقة السفر البريطانية، وهي ليست جواز سفر كاملا.
ما هو الكتاب / الأشياء الذي كنت تحرص على ألا يفارقك / تفارقك في كل مكان تذهب إليه ؟
أحتفظ بالقرآن دائما. و لسان العرب.
هل لديك الآن طبعات أعمالك المختلفة أم فقدتها.... ما الذي تشعر به عندما تري مثلا طبعة من أحد أعمالك لا تمتلكها أو فقدتها؟ هل تتشبث بها وتريد أن تحصل عليها من صاحبها أم تتركها.....؟
كانت لديٌ. آخر مرة استطعت جمعها يومَ كنت في الأردنٌ. بذلت جهدا كي أجمعها. الآنَ لست أهتمّ بالأمر .
هناك كثير من المقترحات الجمالية والفنية في قصيدتك لم تمض بها إلى نهايتها... تنقلت أيضا بين أشكال أدبية مختلفة (الرواية والمسرح والترجمة... وغيرها).. هل الأمر متعلق بتلك الروح القلقة لديك (روح الطائر) كما يسميها عباس بيضون، والتي اكتسبتها من المنفى أم لأسباب جمالية ؟
عدم المضيٌ طويلا في توصّل فنيٌ وجماليٌ معيٌن، عائد أساسا إلى رغبتي المستمرة في تجديد حالي، وإلى انفتاحي على منابع وأشكال جديدة. للمنفى دوره الإيجابي هنا، إذ هيٌأ لي إمكان الإطلاع المستمرٌ على منجزات الآخرين.
هل استسلم سعدي يوسف إلى الغربة؟ ماذا عن العراق؟ هل تحلم بالعودة إليها؟
ما الذي يمنعك أو يحول بينك وبينها؟ وهل وجدت بغداد أخرى كما قلت مرة : المدينة بالناس......ولكنهم أنت؟ إذن سوف أطلب أهلا سواهم وأقصد بغداد أخرى ؟
لن أعود إلى العراق حتى زائرا. أنا لم أغادر العراقَ مستعبَدا لأعودَ إليه مستعمَرا. والسنوات القليلة المتبقية لديٌ لا أريد أن أبددها في بحث غيرِ مجْدي عن عراق غيرِ قائم.
هل تشعر الآن بهدوء روحك القلقة أم أنها مازالت تعتكر بوحول الذاكرة والحنين إلى ماضي بعيد؟
روٌضت نفسي على مكافحة الحنين (النوستالجيا)، وهذا الترويض بدأ منذ عشرات السنين. النوستالجيا معوٌِقة، لأنها تفقِد الفنانَ توازنَه الضروري للسيطرة على مادٌته.
يشغل المكان بمفرداته المختلفة حيزا كبيرا في قصيدتك... هل هي محاولة لاستحضار المكان شعريا كأنك لم تفارقه؟ كما أن تحرص دائما أن تلحق بالقصيدة دائما مكان كتابتها. هل هو محاولة للفت نظر المتلقي إلى خصوصية الفضاء الذي ولدت فيه هذه القصائد بعيد عن السماء الأول كما يقول جابر عصفور ؟
الاهتمام بالمكان جانب من مدخلي الفني إلى كتابة النص ٌ. إنه نابع من رؤيتي النصَّ مؤسَّسا على حقيقة : ماديٌة في الغالب، وشعورية أيضا.
هكذا يأتي المكان العراقي وغير العراقي. ثم أن عليٌ واجبا صعبا بسبب الترحال المستمر، هو توطين النصٌ. إنْ كنت أنا بلا وطن، فإنٌ النصٌ لا يتحمل أن يكون بلا أرض ثابتة. من هنا يتأكٌد المكان باعتباره ضرورة فنية.
نعود مرة أخرى إلي الشعر أو فن انتهاك المحرمات كما تسميه... كيف تأتي القصيدة ؟
الكلمات الثلاث التي تشكٌِل السؤال، تعتبَر أصولا بحد ذاتها : الكيفية السيرورة طبيعة النص (القصيدة معَرَّفة). أنت في حالة من الاستغراق بشؤون أخري، غير متٌصلة بالشعر، ربما كنتَ مَعْنيٌا بمتابعة خبر، أو عنكبوت منهمك بنسج شبكته على طرف سياج، ربما كنتَ ضجِرا، أو تتهيٌأ لوجبة طعام. وفجأة يتبدل كل شيء: حالة الاستغراق في شؤون اليوم تختفي، وتنقطع متابعتكَ هذا الأمرَ أو ذاك. طرف خيط يصل إلى أناملك، حريرا لامعا ذا ألوان بهيٌة. كلمة واحدة، عادة، أو كلمتان، ثلاث كحدٌ أقصى. أهي البداية؟ أعني بداية النصٌ؟ طرف الخيط، سوف يعود بك إلى المنبع الأول، إلى لحظة الارتطام البعيدة، الغائرة في الزمن وفي اللاوعي، اللحظة التي تكاد لا تَبِين، لفرط خفائها. هذه اللحظة التي نبتتْ فجأة، مع ما حملته من قِيَم قابلة للتفاعل، ستكون الأساسَ لِما سيتلو الارتطام، يقصَد به، الشرارة المتأتية من علاقة مباغِتة للحاسٌة (البصر السمع الشمٌ اللمس) بنقطة تماسٌ ملموسة : أنت تتمشٌى في درب بالغابة، أو على ضفة نهر. تلتقط عيناكَ جذعَ شجرة. تتملٌى تضاريسَ اللحاءِ ' ثم تمضي لشأنكَ. تكمل مَمشاكَ، وتعود إلى منزلك، أو تدخل مقهى (كل شيء عاديٌ)، لكنك لستَ أنتَ' أنت مسكون بأمر لا يبدو أنك مسكون به. في الليل، وأنت تحاول النومَ، سيأتيك جذع الشجرة ! وبين اليقظة والمنام، تتحاوران، أنت وجذع الشجرة، ثمٌ تغِطّ في نومك، الأحلام تأتي أيضا. هل سيتحدث. أتفيق، الشجرة؟ وفي الصباح تفيق، كأنٌ شيئا لم يكن. تعود حياتك اليومية إلى سيرتها الأولى، كل شيء عاديٌ. لكنٌ الجذع ينتأ فجأة، كأنه يطالبك بالحوار الذي أهملتَه ! ولأيامي، أو ساعاتي، أو أسابيعَ، أو شهور أحيانا، ستظل في هذا الحوار الخفي، المنسيٌ تقريبا، الحاضر دوما، الغائب دوما، وفي ساعة مبارَكة، لحظة من النّعمى والتوتر ' سوف تتمتم البيت الأول من القصيدة. إنها التمتمة الشهيرة : الشعر الخالص إذ يتكوٌن. الشعر الذي تحاول اللغة أن تستوعبه، فلا تكاد تفْلِح إلاٌ نادرا. هل أغدقتْ عليكَ الآلهة بَرَكتها ؟ هل أنتَ بالغ تخومَ القصيدةِ ؟ بعد البيت الأول، تتسنٌي لكَ، تدريجا، استعادة ما كنتَ فيه من ارتطام، لكنك الآنَ تتوافَر على تفاصيل ودقائق أمور لم تكن واضحة. إنك تستعيد، وتصنع، سلسلةَ علائقَ، ولسوف تمضي بالسلسلة إلى نهايتها: إلى استكمال النصٌِ.
أخيرا: ما هي أحلام سعدي يوسف المؤجلة؟ وهل ثمة مشروع أدبي شعري روائي ¬مذكرات شخصية.... لم تكتبه حتى الآن وتتمنى كتابته؟ وما الذي يمنعك عن كتابته؟
قد كنت شرعت في الخطوات الأولى لعمل قد يكون أكثر أعمالي طموحا. أوديسٌة شخصية؟ ربما. ولقد أعددت الخطة العامة للعمل : تقع الأوديسة في 500 صفحة تضمٌ الأوديسة وقفات: كل كتاب يبلغ خمسين صفحة الصفحات الخمسون تقسَم إلى خمسة أقسام في كل قسم عشر صفحات في الصفحة الواحدة ثلاثون بيتا عدد أبيات القسم الواحد، 300 بيت x 5 = 1500 بيت في كل كتاب، 150 x 10 = 15000 بيت (عدد أبيات الأوديسة).ومثالا لمسعاي الذي هو في دور التخطيط، أقدم تصوري للكتاب الأول في خمس وقفات: النهر والقرية، البحر، العاصفة، شاطئ الهند، المعركة والأَسْر. أما أسباب التوقف عن استكمال هذا العمل: منذ حوالي العامين بدأت طبول الحرب تدقّ، إيذانا باحتلال العراق، ثم جاء الاحتلال، مع كوابيسه وآلامه. كنت أعيش أكثر فترات حياتي توتّرا. كتبت كثيرا، بل كثيرا جدا، أتابع الأحداثَ، حتى شرعت أعصابي تنهار.
الآنَ، سأفتح خطٌتي، وسأشرع أكتب. لقد اعتذرت عن عدم تلبية دعوات كثيرة إلى الذهاب هنا وهناك، لأنني أريد البدء بالعمل. سوف أكتب أسطورتي الشخصية .
****