زيارة لسعدي يوسف طباعة

إقبال محمد علي
الزيارة الاولى :
تنفتح باب الدار على المدخل و الذي هو عبارة عن فسحة صغيرة تسمح لك بتعليق معاطف المطر و تغيير الاحذية المبللة  و تعليق المظلات ...  بعدها تصعد درجات السلم لتواجهك  فسحة  صغيرة أخرى و بعدها تتسلق بقية درجات السلم لتواجهك الفسحة  الاخيرة الآكبر حجما  من الاخريات و  التي تقودك الى مدخل البيت  .

الزيارة الثانية  :
أستقبلني  مرحبا ساعدني في نزع معطفي و تعليقه  نزعت جزمتي و لبست نعل البيت سبقني صاعدا  : كنت متمهلة  هذه المرة في صعود درجات السلم السبع الاولى , انها عادة قد تكون مضحكة للبعض و لكني و بشكل لا شعوري أعد  درجات السلالم أينما كنت  .   لاحظت انه كان في الفسحة الثانية على  يساري شباك تضيئه الشمس ذو أطار ابيض و على حافة النافذة العريضة مجموعة من نباتات الصبير المتنوعة الاحجام و الاشكال و الاعمار، ضحكت  في داخلي بغبطة و سعادة و انا أرى في بعضها زهورا ( يموت الزرع عندي ) ... و عندما تطلعت الى الاعلى  أسترعت اهتمامي مجموعة  من الاعمال الفنية  المعلقة على الجانبين و  المدفأة العالية التي كانت  تواجهني . أنتهيت من  صعود الدرجات السبع الاخيرة من السلم لأصبح وجها لوجه امام لوحة فنية فوق المدفأة للرســام ( مودلياني )  و على يسارها شباك  جانبي ترسل الشمس شعاعها قويا اليه  فيضئ المكان .... و شد نظري منظر الاشجار  المتراقصة بفعل  دفع الريح  التي تحيط بالنافذة لتؤطرها بفتنة متناهيه الروعة . على حافة النافذه كانت هناك مجموعة صغيرة  أخرى من نباتات الصبير الجميلة و كأس صغيرة من الكرستال مملوءة الى الربع بمشروب الويسكي و على يسارها   ورق للف السكائر , قداحة و  منفضة .  وكان مركونا على الحائط اسفل الشباك كرسي خشبي ................  .  
أحدى الزيارات :
فتح لي الباب ... كان النهار مشمسا و دافئا ... حيّاني و اشار الى النباتات الصغيرة أمام الباب و التي زرعها هو نفسه... دهشت لآنني اعتقدت انها جزء من اعمال بلدية المنطقة لدقة طريقة زرعها  . ثم أشار الى شجرة كبيرة عالية شبه  ملتصقة بالحائط  و قال : هذه هي شجرة الماغنوليا . فصفقت طرباً بيدي و صحت : هيه ... متذكرة ما كتبه عنها و حدثني عن تأريخها و كيف كان يرعاها للسنوات العشر الاخيرة لتكبر فتية يانعة  و لتزهر بعد كل هذه السنوات وردتها البيضاء الوحيدة الاولى ,  يتملى الناس جمالها و تصبح  حكايتها مصدر الهام وتباهٍ  لسعدي .
الزاوية في اعلى السلم :
يأخذ قدح الويسكي متوجهاً الى ركنه المفضل : يفتح الكرسي الخشبي المطوي , ثم يبدأ بلف سيكارته بعدها يجلس واضعاً رجله فوق الاخرى مائلا بجذعه متوكئأ بأحدى يديه على فخذه  ، متطلعا أو ربما غير متطلع الى اسفل السلم من ركنه العالي نافثاً دخان سيكارته بين الحين و الحين الى النافذة المفتوحة الظلفة .  هذا الركن الذي شهد ولادة الكثير من قصائده ... فماهو المميز في هذا الركًن ؟  إنها النافذة . عندما تطل من النافذة تواجه اغصان شجرة كبيرة تتراقص بفعل الرياح ترمي و توزع ظلالها في ارجاء هذا الركن الصغير بفعل شعاع الشمس لتشمل المكان بدفئها الذي يتلذذ به سعدي وهو يتطلع الي النافذة ... في الكثير من الاحيان يكفهر هذا الركن بسبب الرياح العاتية  و تبدأ قطرات المطر تضرب بشدة على النافذة يصاحبها عصف الريح و صريره  الحاد و تتلاطم أغصان الشجرة ضاربة بعضها البعض مرسلة أوراقها الى زجاج النافذة . تنظر الى سعدي سارحا بأفكاره غير مبالٍ  بها ، و ليتها كانت تعلم مدى اللذة التي يحس بها و هو يتطلع بصمت الى هيجان الطبيعة و سكونها من خلال هذا الركن .
لم اكن اعرف طبع هذا الرجل ففي الايام الاولى من زيارتي له كنت آخذ مخدة صغيرة ، اضعها على احدى الدرجات ... اجلس على الدرجة مسندة ظهري إلى الحائط متطلعة الى الاعلى مستمعة الى بعض حكاياته  أثناء دردشاتنا التي لا تنتهي .... و عندما احس بأنني وصلت حد الثرثرة ،  أرحمه بالاستئذان لعمل شئ ما في المطبخ وعندما امر من بعيد ذاهبة الى حجرته اراه احيانا واقفا واضعا ذراعيه المنسدلتين خلف ظهره و هو ينود بجسمه الى الامام و الخلف و كأنه مقبل لعمل شئ لا أعرف كهنه ... ابقى اتطلع من بعيد  ثم ادخل الحجرة .
في ايام أخرى من زيارتي القصيرة إليه كنت اتطلع اليه بين الاونة و الاخرى جالسا في هذا الركن ناعما  بالهدوء  و الصفاء ينظر الي  كأنه لا ينظر اليّ ، سارحاً بأفكاره و كأنه ليس في هذا العالم ..... عند ذاك اتركه مستمتعا بهذا السكون و اتحرك بصمت كي لا اعكر صفو افكاره.
يوم أسمه ( عسنّك ) :
ذهب كالمعتاد الى ركنه المحبب  اصبح هذا الركن محببا لي ايضا فلطالما قضينا اماسي جميلة معا او مع بعض الزائرين في الدردشة  و المناقشات و شرب النبيذ الاحمر الذي يتفنن في اختياره ..
قرابة الساعة الواحدة من وجوده في ملجاه جاءني راكضا مضطربا متسائلا : هل تذكرين اغنية عسنّك ؟؟؟
كنت اعمل على الكمبيوتر فأستدرت اليه ضاحكة و انا ادندن بعض كلماتها ... ( انها من الاغاني العراقية القديمة , غناها مطرب المقام العراقي المحبوب يوسف عمر فأبدع في غنائها هو و الجوق الموسيقي المرافق له ) .... استمررت في الدندنة محاولة تذكر بقية المقاطع ....  ( يا منك و هله و يبه ياكلها منك  ).... لا ليس هذا ما اريد . قاطعني متوسلا .. ليس هذا ما اريد , ان ما اريده له علاقة بالماء و بسبب الحاحه المملوء بالتوسل ليصل لما يريده من الاغنية , طارت الكلمات من ذهني  ... مقطع  في الاغنية له صلة بالماء .!!! اقترحت عليه ان نتصل بأنو ( أناهيد ) صديقة مشتركة لنا . اجابت اناهيد و سألتها عن الاغنية فبدأت تدندن كلماتها هي الاخرى عبر التلفون لتصل الى احد المقاطع ( ميك لحدر الساق يا شط عسنك  ) ..... حينذاك صرخ سعدي مصفقا , هائجا , فرحا : ألم أقل لكم ان هناك شيئاً له علاقة بالماء في هذه الاغنية .. ألم اقل لكم ذلك وعلت ضحكاتنا انا و  ( انو ) كما يحلو لسعدي ان يسمي أناهيد . ... كنت أصف لها عبر التلفون حال سعدي الذي اختفي عن ناظري .... بعد ان انتهيت من حديثي التلفوني .. ذهبت ابحث عنه وجدته واقفا محملقا في الفراغ في ركنه و هو ينود بجسمه بصمت .
لم ارد ان اعكر صفو صمته .. كان عليّ ان ارسل رسالة الى اختي فقررت فتح برنامج اليو توب بدلا من كتابة الرسالة و البحث عن اغنية عسنّك فوجدتها بصوت المغنية المحبوبة أنوار عبد الوهاب ذات الصوت الحزين الحنون و طلبت من سعدي ان يشاركني سماعها ... بعدها وجدنا الاغنية بصوت يوسف عمر و قررنا الاستماع لها أيضا و من كثرة الطرب الذي اصابنا كنا نردد و نغني الاغنية معه .... أعتذر مني بعدها و ذهب الى صومعته الاخرى  ( غرفة الجلوس )  ...
مضت دقائق بعدها بدأت أسمع نقرات أصابعه تضرب الحروف بضجة و بسرعة و بدون توقف ....  لم تمض ساعة  بل ربما نصف ساعة عندما جاءني حاملاً ورقة مطبوعة  بيده لأقرأها : كانت القصيدة التي اطربتنا جميعا .... كتب الهوامش ثم مسحها ثم كتبها أو اعاد صياغتها بذهنه ،لم يستعمل القلم  أو الورق ليكتب ...  هو في  هذا الركن كان ينقح ما يكتبه من أفكار ..
قبّلتُ رأسه ... لم اكن اعرف ان هذا الرأس يحمل قرطاسية كاملة من الورق و الاقلام , المماحي و القطاطات لتشحذ ذهنه  المتقد بالافكار و التي أخذت دقائق  لتظهر جاهزة على الورق .

د. إقبال محمدعلي