شعريّة الأمكنة عند سعدي يوسف طباعة

Imageحسّونة المصباحي
لا أعرف شاعرا عربيّا يحتفي بالأمكنة مثلما هو حال الشّاعر العربيّ الكبير سعدي يوسف.وهو يضفي على جميع ألأمكنة، خصوصا تلك التي تبدو بشعة، ومهملة، ومنفّرة، ومشبوهة، جماليّة خاصّة، تجعل قرّاءه، وأحبّاء شعره يرغبون في زيارتها، والتّعرّف عليها هي التي لا توجد في أي مطبوعة، أو دليل للإشهار السّياحي.

وعندما يذهب سعدي يوسف إلى بلد مّا لزيارته، أو للإقامة فيه، هو لا يهتمّ كثيرا على المستوى الشّعريّ بمعالمه التّاريخيّة، وألأثريّة، بل بألأماكن الخلفيّة حيث يعيش المهمّشون،، والفقراء، والفنّانون البوهيميّون، والشّعراء، والكتّاب المهملون والمنسيّون في ألأركان المعتمة، وحيث يمضي الشيوخ والعجائز أوقاتهم في آستعراض الذكريات الجميلة،

وأحداث ماض ولّى وأنتهى، ولم يتبقّ منه غير ما بالكاد يضمّد جراح العمر، وقسوة الزّمن الذي لا يعبأ بأحد.
وكان سعدي يوسف قد عاش في الجزائر في السبعينات من القرن الماضي. وكان ديواناه الرّائعان "الأخضر بن يوسف ومشاغله"، و"نهايات الشمال الإفريقي" ثمرة التجارب الوجوديّة التي عاشها هناك. وفي القصائد التي تضمّنها الديوانان المذكوران لا يحدّثنا سعدي يوسف القادم من واحات البصرة مثقلا بأحزان أهلها لا عن أبطال الثورة الجزائريّة، ثورة المليون شهيد، و لا عن حرب التحرير، ولا عن ألأمير عبد القادر الجزائريّ، قائد أوّل آنتفاضة شعبيّة ضدّ الإحتلال الفرنسي ، وإنما عن حيّ "القصبة"، وشوارعه الضّيقة، المتعرّجة، وعن أناس بسطاء طحنهم الزّمن فما عادوا يفعلون شيئا آخر غير آنتظار الموت في الصّمت، والإهمال، وعن شبّان شاخوا قبل ألأوان بعد أن تحطّمت أحلامهم، وتلاشت أمانيهم وسط صخب الإيديولوجيّات. كما يصف لنا نساء يبعن أجسادهنّ بأبخس ألأثمان، مطلقات ضحكات عالية تنتهي بنوبات سعال، وعن شعراء، وفنّانين مفلسين بالكاد يحصلون على ثمن بيرة في بار حقير، أو وجبة في مطعم يتكدّس ذباب الخريف على طاولاته، وكراسيه البلاستيكيّة.وفي الديوانين المذكورين ينقلنا "الشيوعي الأخير" الذي هو سعدي يوسف بعد سقوط جدار برلين من الجزائر إلى المغرب التي كان يزورها بين وقت , وآخر.وفي القصائد التي كتبها من وحي ذلك، نحن نستشفّ من خلال الرّمز، والتّلميح ألأجواء الخانقة التي كان المغرب يعيشها في السبعينات من القرن الماضي بسبب حملات القمع الرّهيبة ضدّ المعارضين، والمثقّفين التقدّمييّن، والتي يعاينها الشّاعر في حركات، ونظرات النّاس في نقاط عبور الحدود، وفي شوارع وجدة، والرباط، والدار البيضاء، وفي ألأسواق، والحانات الشّعبيّة .وفي دمشق يقودنا سعدي يوسف إلى "خان أيّوب" الذي لم يدلّه عليه أحد غير أنه آهتدى إليه لأنه أصبح يهتدي إلى ألأماكن الشبيهة به آعتمادا على الخبرة التي تسبها .وتحضر بيروت التي أقام فيها سعدي يوسف سنوات طويلة غير أننا لا نعاين إلاّ بشكل مبطّن ما يعكس ألأحداث المأساويّة التي عاشها لبنان في الحرب ألأهليّة. فما يهمّ سعدي يوسف، ويجذبه دائما وأبدا ليس غير تلك ألأماكن التي لا تثير آنتباه، ولا فضول الشعراء الذين يطنبون في وصف بطولات الفدائيّين الفلسطينييّن مقدّما لنا الدليل على أنه يمتلك قدرة فائقة على أن يبتكر من ألأشياء البسيطة ما يمكن أن يكون ساحرا، وفاتنا، ومغريا. وفي اليمن الجنوبيّة في ظلّ الحكم الشيّوعي، يدير سعدي يوسف ظهره لأطروحات الرفاق الشيوعيين، ليصطحبنا ألى حانة قذرة يرتادها البحّارة ، والمهربّون الصوماليّون.


 Image

وعندما عاش في باريس في الثمانينات من القرن الماضي، لم يهتمّ يسعدي يوسف في شعره لا بمتحف"اللّوفر"، ولا بقصر "فارساي"، ولا بالعديد من المعالم ألأخرى، كما لم يتردّد على المقاهي، والمطاعم الشّهيرة في "الشازيليزيه"، أو في "الحيّ اللاتيني"، بل كان يفضّل التجوّل في أحياء المهاجرين المغاربة، وألأفارقة، والجلوس في الحانات التي يجلس فيها بسطاء الناس. وخلال زياراته المتعددّة إلى تونس، لم يكن سعدي يوسف يقلع عن عاداته الجميلة، والطريفة.فهو يحبّ تناول "اللّبلابي" بالهريسة في صباحات الشتاء الباردة. ويحلو له الجلوس في الحانات غير المكلفة التي يرتادها أصدقاؤه من الشعراء، والفنانين. وما أظنّ أن هناك شاعرا عربيّا تحضر في أشعاره بساطة الحياة الشعبيّة التونسيّة مثلما هو الحال عند سعدي يوسف. وهذا ما تعكسه قصيدتاه الر ائعتان "خذ وردة الثلج، خذ القيروانيّة"، و"”نابل" . وكنت شاهدا على ولادة القصيدتين المذكورتين.
فالقصيدة الأولى كتبها سعدي يوسف من وحي الزيارة التي أدّاها إلى القيروان في ربيع عام 1995 مشاركا في مهرجان الشعر ألى جانب الراحل نزار قباني، وأدونيس. وأمّا القصيدة الثانية فقد كتبها إثر الزيارة التي أدّاها إلى نابل، مدينة البرتقال، واللّيمون في شتاء عام 2007. وخلال ألأيّام التي أمضاها هناك كان يقضي ساعات طويلة متجوّلا في ألأسواق، وفي الشوارع، مختلطا بالجموع، وبالباعة، وبالطلبة . وعندما يتعبه التّجوال، كان يجلس في "الرّوتوند" في مواجهة البحر الهائج ليحتسي بصحبة أصدقائه نبيذ "الماغون" اللّذيذ، ولا يعود إلى الفندق إلاّ في ساعة متأخّرة من الليل.
وهكذا آستطاع سعدي يوسف أن يبتكر فرادته الشعريّة لا آعتمادا على القضايا الكبيرة، أو ألأساطير القديمة مثلما فعل البعض من شعرائنا، وإنما من خلال الإنشغال بالحياة اليوميّة، وبألأماكن البسيطة التي تشكّل الرّوح المخفيّة للمدن، ولحياة الناس المنسييّن، والمقصيين من المشهد الإستعراضي الكبير للمجتمعات الإستهلاكيّة الحديثة.وهذا ما فعله كبارالمجدّدين سواء في الشعر، أو في الرواية خلال القرن العشرين من أمثال ت. س.اليوت، وجيمس جويس، وغيرهما.

اخر تحديث الجمعة, 17 يناير/كانون ثان 2014 22:45