ربّما خيّبتُ ما كنتم تريدون».. ما وراء الشعر في قصيدة لـ»سعدي يوسف»(1-2) طباعة

Image

2012-09-23
يأئير حوري
ترجمة: عباس محسن
ملخص:
شعر سعدي يوسف، يعد من أبرز الشعراء العرب في الوقت المعاصر وهو دائم الميول لانعكاس مشاعره الخاصة في الشعر. فكرتان اثنتان مهمتان في ما وراء الشعر يمكن ان تلاحظهما في أعمال يوسف ذات العرقة المعقدة ما بين الشاعر والجمهور التابعين له، موقف الشاعر تجاه العادات والتقاليد والتصورات السائدة القديمة تجاه الشعر.

« في هذا المبحث نقوم بشرح وتفسير قصيدة سعدي التي تحمل عنوان (مهزلة)، ويطرح جدلية يوسف بمهارة وتوظيف نوع مزدوج من الازدواج الجنسي، إحدى هذه التوظيفات ما بين الشاعر والجيل السابق من الشعراء، إذ إن شاعرنا وقف موقفاً معارضاً للتقنية الشعرية القديمة، كما وضحها هارلود بلوم (Harlod Bloom) الثانية كما سنكتشف ذلك، يحدث ما بين الشاعر والقارئ، كما يؤكد بقوة لاحقاً في هذا الحدث المتضمن للرفض.
مقدمة:
  أحد أهم المواضيع المهيمنة في ما وراء الشعر المطروحة في الشعر العربي الحديث (كما في الشعر الحديث عموماً) هي وجود عملية معقدة ما بين الشاعر والجمهور من القراء. مما حدا  ببعض الشعراء العرب المعاصرين لمشاركة الشعراء السابقين هي علاقة مؤثرة، حتى الصيغة الاستفزازية والجدلية، التي فرضها الشاعر على القراء، في بحثه الشخصي عن الأصالة، وعندما يهدف التعبير عن رفضه للشاعرية المتواجدة بين الشعراء السابقين، الشاعر المعاصر بصورة مباشرة يضع القارئ بصورة لافته للانتباه، وهذا نجده في الازدواج الجنسي، في الحقيقة، قصائده –اي سعدي يوسف– تقدم بصيغة ذات بصيرة حازمة في صيغته الشعرية الجديدة.
التقاليد والتصور السابق في الشاعرية غالباً ما نجده في هذا النوع من قصائد ما وراء الشعر. هذه القصائد  (أو أجزاء منها) عادة ما نجدها في الـ(Hypo grams) وهو مصطلح أطلقه (Michel Riffaterre) لوصف مقاطع في القصيدة التي تشير الى المستوى العلمي في قصيدة من الماضي تحمل محاكاة مع ملاحظة كشف وفضح عيوبها أو أكثر درامية، وذلك عبر طرح فكرة الانقلاب المفاجئ (ويفضل هذا النوع في نهاية كل قصيدة) لشعراء سابقين وهذا كله مرتبط وله علاقة ما بين الشعرية والواقعية (1) وهذا التحول المفاجئ يعني موجوداً بحسب وجهة نظر الماضيين نحو موضوع اللحظة المفاجئة أو الاحتقار او السخط. كما (Maria Cook) كشفت ذلك التنقل، هذا التنقل من صيغة الى أُخرى في المادة الأدبية لمادة أدبية أخرى لقوة استجابة النقاد الأدبيين ليخلقوا وجهة نظر نقدية جديدة في دراسة لردة الفعل لدى القراء- المتلقي- لما كان معنوناً وطبيعة التقنية الشاعرية التي سببت هذه الردة، كما في الفكرة والصيغة في القصيدة (2).
التناص صار شيئاً مهماً جداً في تفهُم  الشعر المعاصر، وإحدى أدوات الوقت الحالي المقترحة، إذ انها تشير الى وجود إزدواج (جنسي) في الخاصية الشعرية الخطابية.
         أحد المداخل التي يمكن إيجادها بين الشاعر والشعراء السابقين –الكلاسيكيين– إذ إن الشاعر يوُجِد التعارض ما بين الخاصية الشعرية المبكرة، كما وصفها (Harold Bloom) (3) المدخل الثاني، كما نلاحظ، يحدث هذا ما بين الشاعر والقارئ، كما نجده بقوة في وضع رسالة مهمة في هذا الفصل بخلق ردة فعل(4). سعدي يوسف «بقوة الازدواج الجنسي» يكتب قصيدة فريدة من نوعها يمكن أخذها مثالاً جيداً لذلك النوع من الخاصية الشعرية التي اشتهر بها الشاعر العراقي المعاصر سعدي يوسف. ولد سعدي عام 1934 في البصرة، بدأ نشر شعره عام 1952 ومنها نشر أكثر من 20 مجموعة شعرية. مثلما أشار سعدي السماوي، في أن يوسف يعد أهم شعراء وكتاب العراق. ومن مربيه ومثقفيه الذين أثروا وبقوة في العراق. أجبر على مغادرة العراق في عام 1978، عندما فرض صدام حسين سلطته على حكم العراق. بعدها عاش عدة سنوات متنقلاً ما بين الجزائر، ولبنان، واليمن، وفرنسا، ليستقر به الحال في دمشق– سوريا، حيث يعمل الان فيها صحافيا*.
يتقن سعدي يوسف الانجليزية والفرنسية، فقد امتاز بهذه الميزة –أي تعلم اللغات الاجنبية– كأي ردة فعل لأي كاتب يعيش الغربة، ومثل معظم الكتاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي خلال دراسته الجامعية في جامعة بغداد، ذكر السماوي ذلك على الرغم من حضوره البارع وبراعته في كل الاجناس الثقافية فهو يعد –وبلا منازع ولا منافس– قامة شامخة من قامات الشعراء العراقيين المعاصرين الملقبين بـ(جماعة الرواد) (The Group of  Pioneers)(5) .
وكشاعر معاصر تمتاز ميول يوسف الى انعكاس عملية الكتابة وكل الاجناس الكتابية في شعره عليه نفسياً  (ولهذا فيوسف نجده اختلق شخصية شعرية أسماها «الاخضر بن يوسف» التي نجدها كمفتاح لكثير من اعماله الأدبية). فقصيدة يوسف المعنونة «مهزلة» الموجودة في مجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (قصائد باريس 1990) ومن النظر الى العنوان نلاحظ أن هذه القصائد كان لها نصيب الكتابة في غربته في فرنسا (6) إذ يقول فيها:
لستُ نيرودا
لكي أعلنَ أني قادرٌ أن أكتبَ الليلة هذي
أكثر الأشعار حزناً.
مثلاً
إنّي وحيدٌ
(ربّما خيّبتُ ما كنتم تريدون)
إذنْ
فلأقلْ
الليلُ طويلٌ
(هكذا خيّبتكم ثانيةً)
فلأقلْ:
البنتُ التي أحببتُها قد سافرتْ أمسِ
(وهذي خيبةٌ ثالثةٌ)
هل قلتُ: إنّي رجلٌ أخطو إلى الستين لكني بلا بيتٍ؟
وهل قلتُ: بلادي لم تعدْ لي؟
أم تراني قلتُ: إن الموت في الغربة داري؟
حسناً
لا تضحكوا مني
أما قلتُ بأني لستُ نيرودا
لكي أعلنَ أني قادرٌ أن أكتبَ الليلة هذي
أكثر الأشعار حزناً.
 
    
    يوسف بدأ بقصيدته بأسطر توضح بصورة متواضعة إنه «هذه الليلة لا يستطيع كتابة أي سطر من السطور المؤلمة» وهذه الحالة على ما يبدو موجهة من سعدي للقارئ –المتلقي- كاعتذار على أنه غير قادر على منافسته الشعرية المتواجدة في إحدى قصائد نيرودا. وبشكل استثنائي نقرأ في الشعر الغربي، يوسف وبشكل  مباشر ومتعمد يشير الى اسم نيرودا في القصيدة، وفي نصين شعريين لنيرودا في مجموعة شعرية وفي النص الاول الذي يحمل عنوان (Poema 20)  (قصيدة رقم 20) التي تعد أحد أهم نصوص نيرودا الشهيرة والتي نجدها في مجموعته –اي نيرودا– الاولى التي تحمل عنوان ((Veinte poemas de amory una cancio´n desesperada  (‘Twenty Love Poems and a Song of Despair’, 1924) –عشرون قصيدة حب واغنية لليأس 1924، فنيرودا بدأ قصيدته بالاسطر التالية (7) التي يقول فيها:
هذه الليلة أنا  أستطيع كتابة أسطر حزينة.
 أكتب على سبيل المثال «الليل محطم
 والنجوم الزرقاء ترقص مرتجفة ..»
هذه الليلة أنا أستطيع كتابة أسطر حزينة...
لمجرد تفكيري أني لا أمتلكها لمجرد شعوري أني فقدتها.
          كلام يوسف يتقمص حقيقة مفادها ان معظم القراء يستملكهم الإعجاب من شعر نيرودا، الذي يعتمد اعتماداً كليا على فضح سرائر القارئ في ايجاد الروح الهائمة والمعذبة لشاعر منبوذ ومشرد. على الرغم من «إعلانه المنفتح» لكنه يحاول أن يكتب قصيدة ربما تقلد أسلوب نيرودا وتستمد منه الدوافع الرومانتيكية من الشاعر التشيلي ذي الأسلوب الطريف في وصف دوافع القصيدة، مثل سبب عزلة الشاعر وألمه الطاحن الذي كان بسبب فقدان الحبيب لمدة طويلة. لذلك يوسف يشير الى إحدى أهم وأشهر قصائد نيرودا التي تخاطب «الليل الطويل» كأنه رفيق الروح. قصيدة تحمل عنوان:
« El Corazon Magallanico, 1519 « (‘Heart of Magellan’, 1519) والتي تتضمن ما يسمى بـ :
 Canto General (‘General Song)    -أغنية عامة 1950 – وهي مجموعة نيرودا الشهيرة التي أضاف إلها تأثيراً في تاريخ أميركا اللاتينية وأهم نقاط وجهات النظر الماركسية التي كانت في تلك المدة فكرة مهمة هي الصراح الاجتماعي لتحقيق العدالة آنذاك وفي بلده بالتحقيق ومن قصيدته استشف يوسف أهم أشهر أسطر (8):
 
إني أتذكر وحدتي
في ذلك المكان
الليل الطويل والألم تصحباني سوياً أينما أكون
      لكن خطاب يوسف لا يرغب في إعادة التوافق مع الجيل الماضي، بالتوقف بعد كل سطر مفتوح يمكن أن يقوده نحو شعر نيرودا وهو معتزم بالخطو مثل تلك الخطوات. أضف الى ذلك إن قُراءه وبشكل مباشر معروف من قبله، إنه تجنب الوقوف عندها – أي مثل هذه الخطوات ربما أصابتهم خيبة الأمل في مثل هذا الأمر. وللمرة الثالثة يتوقف (ويعلن من داخل نصه الشعري)- (إنها خيبة أمل ثالثة) وهذه المرة تكون واضحة للقراء –المتلقين– إنها فقرة متعمدة أو ربما متوقعة منه. روث كاريتون  بلوم Ruth Kartun Blum  - ومن خلال دراستها فقرة ما وراء الشعر أشارت وبشكل لافت لأهم الفقرات في (Self- Reflexive) أو (الانعكاس الذاتي) وإن الشاعر له القدرة على التأثير في القراء والعلاقة بينهما. وهو تلاعب ثابت بذائقة القارئ.
        وبالاشارة الى (Kartun Blum)  والشاعر عادة ما يحفر في القارئ لأمور عدة للفت انتباهه الى حقيقة مهمة أن القصيدة لها تأثير كبير في ما وراء الشعر أو بالأحرى من أي ثيمة أخرى. هذه الملاحظة هي ذات صلة وثيقة جداً لما للقصيدة من علاقة، ولا سيما عندما نكمل القصيدة ونكتشف أن صوت الشاعر –سعدي– وبشكل فارض ومتعمد أيضاً بوجود أُمنيات بانتزاع شعور (خيبة الامل) بين القراء، هذا المقطع من «لفت النظر» إضافة الى (Kartun Blum) لا يمكن تحمله من قبل الشاعر الى أجل غير مسمى، بالأحرى يعتزم منح عناية خاصة للقراء بأن القصيدة يوجد فيها (Self- Reflexive)– الانعكاس الذاتي وإن التلون لدى الشاعر يجب أن يكون بشكل جوهري لدى الشعراء السابقين في ما يتعلق بجوهر الشعر (9).
      في حالة يوسف، يطرح هذا الامر بشكل غير مباشر الى القراء الذين يعتقدون بأن الشعر، ولا سيما الشعر الحديث، أن لا يستخدم فيه الشكل الانفعالي المبالغ فيه والنغمة الميلودرامية لغرض لفت الانتباه نحو الروح المعذبة للشاعر في داخل القصيدة. من وجهة نظر يوسف يجب على الشاعر المعاصر عموماً استخدام الحساسية والنغمة المجردة عندما يحاول أن يفضح عالمه المجرد أو في حال عرضه أي موضوع شعري، هذا ما كان سعدي السماوي يصف فيه اسلوب يوسف الشعري: (10) يظهر أنه –أي سعدي يوسف- يؤمن بأن همس الشعور هو أكثر تأثيراً من الخطابة المباشرة مما يوحي بقناعة تامة بأن التجسيد الخيالي والتصويري هو شيء اعتيادي وهو قابل لتحمل الفكرة أكثر من التصوير كأحد أقصى لذلك.
هوامش المقال:
 1. Michel Riffaterre, Semiotics of Poetry, Bloomington 1978, 81–163.
2. Maria Cooks, ‘Francisco Brines and the Rebirth of Conceit in Spanish Contemporary Poetry’,
http://tell.fll.purdue.edu/RLA-archive/1989/SpanishAJT-html/Cook-FF.htm. On poet–readers relationship
in modern Arabic poetry also see: Yair Huri, ‘Ars Poetica and Meta-Poetic Themes In
Modern Arabic Poetry’ (unpublished PhD thesis), Tel-Aviv University, 2002.
3. Harold Bloom, The Anxiety of Influence, New York 1997, 3–16.
4. Cooks, ibid.
5. السيرة الذاتية للشاعرسعدي يوسف مأخوذة من:
Saadi S. Simawe, ‘The Politics and the Poetics of Sadi Yusuf:
The Use of the Vernacular’, Arab Studies Quarterly, 19 (4), Fall 1997, 173–186. The article also
includes a comprehensive list of Yu¯ suf’s works in Arabic. For Yu¯ suf’s English translated poems
see: Khaled Mattawa, Without an Alphabet, Without a face, Minnesota: Graywolf Press, 2002.
6. سوريا –دمشق وقد قمت بترجمته – المؤلف- –  1995 النص  مأخوذ من الاعمال الشعرية الكاملة لسعدي يوسف ج 3 ص 253-254 طبع عام  .
7.   http://boppin.com/poets/neruda.html  النص المترجم للغة الانجليزية  من موقع:
8. ( Ben Belitt), New York 1961, p. 133. و ترجمها للإنجليزية :Pablo Neruda, Selected Poems القصيدة من كتاب 
9. Ruth Kartun-Blum, ‘Self-Reference in Alterman’s Poetry,’ Proceedings of the 9th World Congress of Jewish Studies, 1985, 371–378.
10. السماوي, 175.