فخري كريم يدفن سعدي يوسف حيّاً طباعة

أسعد البصري

Image


إن الإحتفاظ بالروح واللغة و بسر الإنسان
يحتم على الكاتب عدم المشي على حبله السري الخاص باستمرار
ولماذا أقرع الأجراس وأطعم الكنيسة المهجورة اعترافاتي الشهية
للبشر صفات عديدة أشهرها نكران الجميل
وعلى الكاتب أن لا ينخدع بالألم الشديد للجسد
فهذا الجسد وإن انطوى على حقائق كبيرة يبقى بحد ذاته خدعة قديمة
إن الذي يأتي بالحياة يأتي بالموت ولا توجد معجزة أكبر
من هذا الكوكب و من وجودنا عليه
يجب أن يكون السبب في الكتابة هو

أنا أكتب عندي موضوع اسمه الحرية
وليس أنا أكتب ، أنا أريد فلوس ،
أنا حلو أدور معجبين ، أنا خوش أكتب
لابد من رسالة تسبق القلم
في مجتمع عربي تقليدي ماذا تفعل الكتابة ؟
الكاتب فرد يتحول إلى متهم كلما تكلم بعيدا عن القطيع
القطيع يحميك يجعلك مفهوماً و ربما مقبولاً يوفر لك المساعدة
بينما لو سرت وحدك تصبح مخبرا جاسوساً قوادا مشكوكا في نسبك
الفرد / الشخص ولد و كبر و يقولون إنه مات في المجتمع الغربي الحديث
لكنه لم يظهر أصلا في مجتمعنا فكيف يموت ؟؟
إن غضبي على الكتاب هو في هذه المواضيع التي لا نهاية لها
وهي النضال الكبير في سبيل حرية الثقافة والإنسان
مع هذا لا أحد يراها ولو رآها لا يرغب الحديث عنها
إن نظام العزل الطبيعي للأفراد المختلفين في مجتمعنا
تجعل أجسادهم مباحة للتعذيب والتصفية و الحذف والإلغاء
إن الطاهر = يتكلم ، بينما النجس = يصمت و يحذف
هذا النظام المعقد القديم للمراقبة وإلغاء الشخصية
هو أخطر نظام يجب تفجير اللغة ضده و التبشير بأفكار تخالفه
نظام الدين والحزب والطائفة والشرف والطهر والعشيرة
كلنا رأينا الهجوم الخسيس الذي أطلقه فخري كريم بكل سلطاته
ضد الشاعر الأعزل الكبير سعدي يوسف ، صار الهجوم
على أكبر شاعر عراقي حي وإهانته شرط الحصول
على وظيفة و طبع كتاب في مؤسسة المدى العملاقة
لقد ارتبط الجواهري  ( المبدع الكبير حقاً ) بالسلطة ليصبح طاهراً مطهراً
ليس بسلطة  الملك فيصل الأول و حافظ الأسد و ملك حسين  فقط
لا لا لا لقد ارتبط بالسلطة الدينية النجفية القديمة المقدسة القوية الثرية
بسبب أصله الطاهر الشريف ( جده مؤلف جواهر الكلام ) من جهة
ومن جهة أخرى ارتبط بحركات التحرر الإتحاد السوڤيتي واليسار العربي
هذا التراكم الهائل لمجموعة من السلطات التقليدية والعلمانية مع بعضها
جعلت الجواهري أكثر قداسة من مرجع ديني و أكثر قداسة من المتنبي
الناس تشعر بأن الجواهري مقدس أكثر من ألف سيّاب ولا يعرفون لماذا
إن الطهارة والنظافة والشرف والفضيلة تأتي من السلطة و من القوة
لا ألوم شاعراً يبحث عن سلطة ما في مجتمع قائم على الإشاعة والرياء
السلطة ترفعه عن الغوغاء يصبح أعلى من متناول أيديهم و ألسنتهم
وبسبب حاجاتهم الوثنية سيجبرون على محبته والبكاء حين يُذكر اسمه
الناس منافقون و ماكرون في النهاية ، حصيلة مجاعات لآلاف السنين
عندما أقول عام 1993م جلسنا في دمشق
الناقد كريم الثوري و أبو شيلان و أنا في شقة عفنة
كانت الكهرباء مقطوعة و على ضوء الشموع
قرأت قصيدتي (رغبات) فقال كريم لأبو شيلان :
أتمنى أن لا تأتي الكهرباء حتى أنعم بهذا الشعور
الذي تركته القصيدة في الظلام الجميل الذي أصبح صديقاً
هذا الكلام لا أحد يشتريه بنعال عتيگ لأنه تاريخ فقراء
بينما لو قلت( وهذا تاريخ من الخيال )  : كنت في القصر الجمهوري ل حافظ الأسد
الذي يقع على قمة جبل قاسيون و كان عنده الوزير فاروق الشرع
و عبد الحليم خدام و عمرو موسى و سألني حافظ الأسد
عن سبب الجمال في الشعر الأموي فقلت : بأنه زمن العشاق الأول
بعد انقطاع الشعر العربي و تراجعه بسبب صدمة الوحي والإيمان
هذه الذكرى تكون خطيرة و مهمة بالنسبة للغوغاء أكثر من الأولى
لأن التاريخ هو بكل أسف تاريخ ملوك و أمراء لا مكان فيه للفقراء
و يتم سحل الشعر كالجواري في هذه العملية المؤسفة المتعلقة
بغياب الفلسفة و الحرية و حقوق الإنسان
مشكلة الغوغاء أنهم يحملون مشاعر سيئة عن أنفسهم لا يثقون بعقولهم
إن احترام الذات يتطلب وعيها ومعرفة حقوقها و هذا كله غائب
إن الشكل النهائي للبلاغة العربية : هو سحق الناس بالحذاء
وإن الشكل النهائي للشاعر العربي عبر التاريخ هو : المكر
نظرة سريعة في كتاب ابن عبد ربه الأندلسي(  العقد الفريد )
تفضح العملية المشبوهة للشعر والشعراء العرب عبر التاريخ
لقد كان محمود درويش دقيقاً حين قال بأن صديقه سعدي يوسف يؤسس لبلاغة جديدة ، أي أن إبهار الناس وإعجابهم لم يكن مهماً بالنسبة لشاعر حداثي كبير مثل سعدي يوسف بل كان مشغولا بسؤال البلاغة العربية وعلاقتها بالحرية في كل كتاباته يحاول بجسده و عذابه فتح طريق لمن يأتي بعده من الشعراء ، كان يعمل ضد تاريخ الشعر العربي الذي كان حذاء الملوك و سوطهم و بلاغتهم مع وعاظ السلاطين ، كان سعدي يوسف يكتب بلاغة الفقراء ( أو ما يسمى اللا شعر  ))  كما فعل فرانز فانون للسود والضعفاء في الفكر والفلسفة . هكذا مبدع وطني كبير حاول فخري كريم بسلطته العملاقة السخرية منه و دفنه في الحياة . في الوقت الذي كان كل شعرور صغير يفكر بالخلود كان يتم و بشكل جماعي دفن أكبر شاعر عراقي حي حيّاً بأمر من فخري كريم . هذه هي الثقافة العراقية بكل أسف .
وهذه هي البدهيّة في الثقافة .

......................
بَدَهيّة

سعدي يوسف

لستُ الـمُـقـامرَ
أنت تعرفُني ، طويلاً ، من نخيلِ أبي الخصيبِ
إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ " ...
حتى لندنَ ... الآن !
انتبهْتَ ؟
أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :
لم أكن المقامرَ
هكذا !

لكنني غامرتُ  ... كنتُ ولا أزالُ ، هنا ،
  المغامرَ
لا الـمُقامرَ ...
هل فهِمْتَ؟
عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !
واحفَظْ ما أقولُ
احفَظْ
نعمْ
عن ظَهرِ قلبٍ ...
قُلْ  لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ  ، هنالكَ اسمٌ واحدٌ
هو ما ظللتُ لأجْلهِ ، أبداً ، أغامرُ
هو أوّلُ الأسماءِ
آخرُها
وأعظمُهــــا ،
وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ :
هو العراقُ الأولُ العربيّ .