شخصيات شعبية في قصائد سعدي يوسف الخمسينية طباعة

سعدي يوسف والناس
باريس - طه رشيد
كل الاغاني انتهت الا أغاني الناس
والصوت لو يشترى ما تشتريه الناس
عمدا نسيت الذي بيني وبين النـاس
منهم أنا مثلهم والصوت منهـم عاد
اعتقد الإغريق القدامى بأن الأعمال الإبداعية العظيمة هي التي تتناول أحداثا وشخصيات عظيمة ... لذا يعرف ناقدهم الفذ " أرسطو " التراجيديا ، بأنها ( محاكاة فعل جليل تام له عظم ما ) ، وحين نتصفح مسرحيات الرعيل الأول من كتاب الإغريق ، اسخيلوس ، سوفكليس وغيرهم لن نجد أثراً مهما لشخصيات هامشية أو مواطنين عاديين ، بل هناك ( الملك ) ممثلا للسلطة المطلقة و( الملكة ) و ( العراف ) ، وإن وجدنا شخصية أقل شأناً فلن تكون أصغر من قائد للجيش .

وقد استمر هذا الفهم قرونا عديدة وهو ما لم يخف على شاعرنا سعدي يوسف , المولع بالكتاب والثقافة والناس سليل ابو تمام والجواهري والسياب ,عاشق الحياة والشعر وكأني به يعيش منهما ومن اجلهما ـ بل انه فطن منذ فترة مبكرة على ان " العظمة " لا تقتصر على السماء ولا يمكن ان تخص إلا بناة الحياة من البشر مما حدا به 0ان يستلهم هموم الناس اليومية في اجمل صورها الشعرية : ( يا محمد انها الارض التي نحيا عليها ونموت ) هكذا يشهق في احدى قصائده الخمسينية ...
وأستمر سعدي يوسف يعقد صداقات حقيقية وصادقة مع الناس أينما تواجدوا في المدرسة أو في الشارع أو في المقهى .. فتنوعت شخصياته بتنوع الحياة نفسها التي راح يرمي فيها شباكه ليصطاد لنا اجمل ما في كلام الناس من جواهر ولؤلؤ , ويصطفي من المشاهد أبهاها .. يرتبها وينسقها في صور متتابعة وعلى نسق فكري اختطه لنفسه وليؤسس لنا ما يسمى بالقصيدة اليومية , ليعلو بشخصياته الهامشية ويناطح بها الملوك والامراء ومِنْ مَنْ ورائهم من مداحين وطبالين وتجار كلام .
في العام 1956 , أي قبل سبعة وخمسين عاما يكتب لنا عن فتى اسمه حسون :

حسون
الذي يعمل أشياء كثيرة
حسناً . !.
هذا فتى ثانٍ اذا كنت تلحُ
هو من قريتنا ايضاً , له وجهٌ صغيرْ
ان هدبيه طويلان . . .
وفي عينيه صبحُ
ويقولون على اضلاعه جرحٌ قديمْ
كلُنا نعرفهُ , كان كريما
رائعاً يدخل في كل البيوتِ
مسرعا" كالطفل :
أماه ُ تعالي . . .
من ؟ عيوني انت , يا ورد الشمالِ ! ..
أين ألْفُ البرتقالِ ؟
. . . . . . . . .
. . . . . . . .
في المقطع اعلاه من قصيدة ( حسون ) تغمرنا رائحة البيت الذي يعبق برائحة الزمان الطيب كطيبة صوت الام التي تسـأل وتجيب في نفس الوقت : ـ من ؟ عيوني انت ..
وكلامها يلامس القلب واقرب للروح من جمل فضفاضة وتزويق لفظي مبالغ فيه وسجع رتيب ياتيك في قصائد البعض كالحجر ، اذا لم يشج لك رأسك فانه يسد عليك منافذ الذائقة ...
كلمات سعدي تشبه الى حد كبير كلامنا في الشارع او المقهى ..تشبه حوارنا مع أم او مع حبيبة , انه السهل الممتنع الذي يبرع به الشاعر سعدي يوسف والذي ـ على مدار نصف قرن ـ يفاجئنا به وبالجديد منه:
انه يعرفُ كل الناسِ في " بابِ الطويل "
من لصوص التمر حتى المخفرِ الرابضِ في صمتِ النخيلِ
انه يعمل أشياء كثيرةْ
ويبيعُ الطِيب والخمر ... وأشياء كثيرةْ
. . . . . . .. . قال لي يوما وملءُ الليلِ أزهار صغيرةْ
وعلى كيس من الليمون قد نامت يداه :
آهِ لو يحترق المخفر’ . . .آهْ !. .
ولم يترك سعدي يوسف شخصياته عائمة او بدون ارادة بل بالعكس , فان ارادة التغيير واضحة وجلية كما الحال عند حسون الذي يتمنى وبحرقة شديدة ان يحرق مركز الشرطة / المخفر , وهو الاداة القمعية الاولى للسلطة . .
أما ( رزوقي ) في القصيدة التي تحمل اسمه والتي كتبها الشاعر في حزيران 1959, فانه لا يحاول ان يتعرف على العالم المحيط به فحسب , بل ان يفهمه ويدركه من خلال الاسئلة التي يطرحها على صديقه الشاعر, ليبدد ظلمة الجهل وليضيء لنا وله قنديل في عتمة الروح :
كان يراني أقرأ’ الكتابْ
فيومض’ المكر’بعينيهِ . . . ويطلق’

وكيف ؟
وهكذا أحببته , أحببت في عينيه ْ
شيئا من العنادِ والزرقةِ والودادْ
أحببت’ في كفيهْ
خشونة الجنديِ والفلاحْ
أحببت في أعماقه التساؤل الملحاحْ
ومرة أخرى ـ قبل اكثر من نصف قرن ـ يبهرنا بالحديث عن سالم المرزوق , قائد المركب النهري,
يا سالم المرزوق خذني في السفينة … في السفينة
خذ مقلتي ثمنا….. سأعمل ما تشاءْ
لم يكن سالم المرزوق قبطانا لسفينة ( تيتانيك ) ولا قائدا لحاملة طائرات ..انه ببساطة (بلام) أو
( امعبرجي ) ويمتلك اهمية كبيرة للناس الذين لاتوجد لديهم وسيلة الانتقال بين ضفتي
النهر ليلتقوا باهليهم ومحبيهم او لقضاء اشغالهم ـ, وتتصاعد اهميته اطرادا
للشاعرـ العاشق الذي يروم لقاء حبيبته الحزينة :
يا سالم’ المرزوق’ . . .
ليست كالنساءْ
هي حلوةٌ ياسالم’ المرزوق’ يذبلها البكاءْ
هي طفلة ٌ ما زال يفرحها القمرْ
وتخاف ان هطل المطرْ. . .
يا سالم’ المرزوقْ . . . .
حين ننتهي من قراءة القصيدة ونطوي الكتاب يتلألأ على صفحات القلب سالم المرزوق الذي سيتراءى لنا كل ما مر امام طيفنا احد الرافدين او تفرع منهما او ملتقاهما في قلب الوطن , البصرة .. لقد اضاف هذا ( السالم ) قيمة خفية على القصيدة , نتلمسها دون ان نمسك بها , قيمة تقترب من الروح ..تحرك كل كائن دون ان نراها ! ! ! ! ولذلك تبتدئ وتنتهي به القصيدة فننسى الحلوة ونذكر سالما ....
معايشة هذه الشخصيات دفعت بشاعرنا ان يلتزم بموقف طبقي واضح ظل يلازمه طوال حياته وهو ببساطة مناصرة الفقراء ومعاداة كل اشكال التسلط , احبهم واحب عاداتهم وتقاليدهم واغانيهم , اقتبس منهم وكتب اليهم :
محيسن فلاح من عمق الاهوار التي ظلت تعاني من السلطات المتعاقبة التي لم تهتم ولم تعتنِ باقدم واجمل منطقة مائية في الشرق الاوسط حتى وصل الامر بسلطة البعث المباد , حين احست بالخطر الجاد الذي يحيق بها في هذه المنطقة , ان غيرت مجرى المياه فمنعت الحياة عن الانسان والشجر والطير:
أما شاهدتك بين البردي تعبئ’ رشاشاً ؟
أو لم ترفع للكومنة رايتها الحمراء ؟
في تلك الايام 31/3/73. لاحظ الشاعر بعد مرور عام على ثورة تموز 58 ان سكنة الاهوار لم تمسهم رياح التغيير ولم ينعموا بما توفر للمترفين من سكنة المدينة فما زال محيسن ورفاقه من الفلاحين, يعانون من المرض والفاقة , فكتب اليهم من خلال هذه القصيدة ( الى محيسن من هور السفطة ) :
أبصر . . .
فوجه الفاقة العظمى كوجه الميتينْ
أعمى , يمص الدود والزهري , مبحوح الانينْ
وتتاجج مشاعر المبدع ليصبح محرضا وداعية ضد السبب والمسبب للحالة المزرية التي يعيشها محيسن :
أصرخ بأعماقِ المدينةِ , قفْ بساحاتِ المدينةْ
القصائد التي كتبها سعدي يوسف في الخمسينات مليئة بشخصيات شعبية تعبق برائحة المكان وتلك السنوات وتحمل معها نكتها الخاصة بها , ومع هذا استطالت بنا الى يومنا هذا:
سلمان عبدالله يذكره الشاعر في قصيدة( حادثة في الدواسر / 51 قصيدة ) كتبها عام 1955 يقول فيها:
سلمان عبدالله يا قمر الدواسرِ . . . يتبعونكْ
ببنادقٍ متأرجحاتْ
أبداً وراءك يركضونْ
فعيونهم تخشى عيونكْ
لكنهم قد يقتلونكْ
لن يذكروا يا طفل عبدِ اللهِ , اغنيةً سخيهْ
كنا نغنيها معاً : " للناصريةْ
تعطشْ وشربكْ مايْ . . . للناصريةْ "
وهكذا اسس سعدي لقصيدته اليومية منذ فترة مبكرة جدا تزامنت مع ولادة القصيدة الحديثة التي كانت تحبو فوقفت على قدميها من خلاله ومعه . . .
لقد قالت العرب بان السنبلة الممتلئة تنحني بينما الفارغة فانها كنبتة خشاش تعصف بها الريح فتحدث جعجعة
لا دقيق وراءها ولا خبز , أما شاعرنا فهو يكاد ان يكون حقلا للسنابل يطفح بالشعر والفن والابداع ومن هنا جاء تواضعه الجم مع شخصياته والناس في الحياة والشعر.