الــعرب وصناعة دفن العروبة...؟! طباعة

مصطفى قطبي - فاس
بعد قرن ونيف من يقظة العرب وشعورهم القومي الذي خبا أو غفا لحين من الزمن بفعل عوامل كثيرة... كيف تبدو الأحوال العربية الآن...؟! وهل تراجعت العروبة إلى الوراء...؟! ولماذا يحدث ما يحدث الآن...؟! أهي العلة في الفكر القومي العربي أم أدوات التنفيذ؟ أم هي عوامل موضوعية أم خارجية...؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها بقوة. ما الذي يجعلنا ننكص بعد قرن ونيف... لماذا تزداد حدة القطرية والانكفاء أحياناً إلى حيز طائفي وعشائري وقبلي...؟! أليست العروبة تراثاً وحضارة ومشروعاً مستقبلياً...؟!

من أين جئنا اليوم، في هذا الزمن العربي الأسود ببدعة الربيع، وكيف خدعنا أنفسنا كل هذه الأشهر، وتوهمنا أن لون الدماء التي سالت في شوارع العرب غرباً وشرقاً هو اللون الأخضر، الذي يجلل الثورات بالغار، ويحيي يباسها في كل الحقول، كيف استسلمنا لهذه الكذبة الفاقعة، ورمينا بقلوبنا على أقدام شبح غامض يضرم النار في معدن العرب تحت جنح الليل، كي نتبين في الصباح أنه مشعوذ يرتدي عباءة من الحرير، ليخدع أبصارنا بصورة قادمة من بطون التاريخ تتصل برمز انتمائنا العربي، ثم نكتشف أنه سليل ماسونية خفية، تدرب في معاهد الصهيونية النقية، وخلع عليه برنار ليفي وسام البراءة من العرب والعروبة، وأدخله المحافظون الجدد في جمعهم العنصري، وأرسلوه إلينا بلسان فصيح نبياً لثورات العرب، وراعياً ليقظتهم الكاذبة التي تشبه ساعة النزع الأخير! فلم تعد بعض الظواهر السياسية المنتشرة هنا وهناك على الجغرافية العربية تثير الأسئلة والاستغراب فقط، وإنما أصبحت تحتم علينا التذكير بمسلمات وبديهيات يبدو أن معانيها ومفاهيمها إلتبست على بعض العرب منذ بداية موسم الهجرة إلى ''الليبيراليات'' الجديدة ودخولهم عصر ''الديمقراطية الصهيو أمريكية''. لقد كنا لأمس قريب نخال أن تلك البديهيات من الحقائق التي لا تحتاج إلى تذكير أو تفعيل، ولا يمكن القفز عليها أو تحريفها أو تزييفها تحت أي ذريعة كانت بل هي من أبجديات كل فعل سياسي وطني أصيل. ولا شك أن في مقدمة هذه الحقائق أنه لا شيء يثمر خارج تربة الأوطان، ولا مستقبل لمشروع أو مقاربة سياسية تستعير مصادرها ومفردات مضامينها وآليات تنفيذها من خارج بيئتها وحدودها أو تستمد عوامل ''قوتها'' المزعومة و''شرعيتها'' الموهومة من وراء البحار. ولكن يبدو أنه زمن استعارة الجلود واستبدالها كما تستبدل ربطات العنق، وصار بالإمكان الانقلاب على القناعات والدوس على الثوابت حتى الوطنية أو العربية منها دون حياء... إنه زمن أصبحت فيه مفاهيم الوطنية والسيادة والكرامة في قاموس رهط من العرب من المفاهيم البالية، ويُنعت كل من يستخدمها أو يرفعها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه بالمتخلف ومن أصحاب اللغة والمواقف الخشبية... وأنه في قطيعة مع عصر المفاهيم الرخوة والزئبقية التي استوردوها. نعم، لقد تحولت بعض الحركات إلى دُمل متورمة على خارطتنا العربية وهي ترفع يافطات تناقض جوهرياً المهام التي أوكلتها لنفسها، بل وتدعي احتكار تمثيلها والناطق الرسمي الأوحد بإسمها، متعامية على حقيقة ماثلة أمامنا تتعدد شواهدها في ساحاتنا العربية النازفة، حقيقة تقول أن الاستقواء بالأجنبي واللهاث وراء عونه والاستئساد على الأوطان ببوارجه ودباباته إنما هي من عوامل التعقيد لأوضاعنا وأيسر المسالك لتفكك نسيج مجتمعاتنا وبالتالي أقصر البوابات للهيمنة ومصادرة قرارنا السيادي وإجهاض تطلعات شعوبنا المشروعة في الحرية والرفاه والكرامة. والأغرب من كل هذا أن هذا الرهط من العرب لم يدرك بعد، رغم المآسي والكوارث التي تسببوا فيها، أنهم بسلوكاتهم تلك أصبحوا عنواناً من عناوين اعتلال الأوطان وجزءاً من المشاكل القائمة لا من الحلول التي تنشدها المجتمعات العربية لتجاوز مأزقها وأزماتها الراهنة.
فالوقت يأكل بعضه، والزمن الفاعل لا يمرّ من هنا، وحين قرّر العرب الخروج عن صمتهم وعجزهم، إلى مغفرتهم وفاعليتهم ونهضتهم، ليدخلوا عنف الواقع عملياً، وقد ارتسم في جاهلية مستبدة، وإدارة تغيير خارجية، ليست مستنبتة في رحم الأرض هنا، لسوقهم إلى حاضرهم ومستقبلهم، ليس كما قبل حراكهم وصدمتهم، الصدمة التي تؤسّس لمرحلة جديدة، فتعيد إنتاج الوعي السياسي والجمعي، لما بعد الصدمات القادمة والمتتالية، ولأنّ الصدمة التي تهز ساحاتهم، نتاج مفهوم سلوكي، متمركز في صلب الثقافة والسياسة الغربية، الأمريكية والأوروبية، والتي تظهر في صيغة الكارثة السياسية أو الاقتصادية، أو العسكرية، لتنجز الممكن الذي كان من المستحيل إنجازه أو قبوله، وتأخذ الجغرافيا التي حملت تاريخاً ووجعاً، فقاومت ومانعت، لتعيد تأهيلها كما ينبغي رخوة وهشّة، فيصبح الانقلاب على الشأن العام، ومقايضته بالخاص متاحاً، فينسحب المجال العام للدولة من التداول والتناول، على مستوى الحضور في حياة الأفراد والمجتمع، فيتقدّم مزاج الخاص (مرّة كان طفيلياً، ومرّة كان ليبرالياً يمتصّ دم الاقتصاد والمجتمع، واليوم يكون تكفيرياً) لتنظيف المكان، من الوجوه المغبرّة وطنياً، فيرتسم الواقع، كما لوحة سريالية للعنف وأطماع الرأسمال السياسي، وارتزاق لمعارضة على موائد الغرب، في الغارات المنظمة على الدولة، وشأنها الأمني وشرعيتها، لتطيح بها إستراتيجية رأس المال العابر للحدود والجماعات والمصالح، فتؤخذ الإصلاحات التي كانت ملكاً للمجتمع، في السياسة والديمقراطية، لتنهر على وقع البناء الجديد، (العراق بالأمس، وليبيا اليوم، وسورية واليمن غداً...)، فلا يبقى للدولة غير الحماية والحدود وتشريع تنافسية الأسواق والاحتكار. فالأمريكيون يبحثون عن مصالحهم وينفذون برامجهم وأفكارهم ومشاريعهم، وكذلك يفعل الإسرائيليون مستفيدين من كل شيء. أما العرب فيقفون مذهولين ضائعين مذعورين قلقين مسلمين أن لا حول إلا بمزيد من الارتباط بالأمريكيين. والأمريكيون كلما احتضنوا هؤلاء، أظهروا في تصرفاتهم وكأنهم يحتضنون مادة كريهة مسمومة بشعة، لابد في وقت معين من التخلص منها ورميها وتدميرها، وكل التجارب السابقة قد أكدت ذلك.
فمعظم النظام الرسمي العربي يقف في بؤرة عري تاريخي لم يسبق له مثيل. وربما لم يشهد التاريخ المعاصر هذا القدر من التبعثر وانعدام الوزن والمكانة السياسية، وهو يبدو اليوم مستسلماً للقوى الغربية والمخطط الصهيوني تحركه في اتجاهاتها. وبهذا المعنى، المشروع الأمريكي: الشرق أوسطي والإصلاحات الديمقراطية المعولمة، لا تعني غير الشر الموجه للأمة ''ليل ونهار'' بقفازات حريرية وألوان زاهية، تخفي حقيقة رغبة الإدارة الأمريكية التدخل في الشأن الداخلي العربي و الإسلامي، وإعادة التجزئة ورسم خرائط وكيانات جديدة تنسج رؤيتها العقيدية ومصالحها الاستراتيجية ''من وجهة نظرها''. فسقف المطالب الأمريكية والصهيونية ترتفع أمام العرب يومياً، في حين تبدو الجامعة العربية كلها مؤجلة، جامعة حكم عليها القادة بالمتاهة والغيبوبة أي بالمتاهة الشاملة، عن حل الأزمات العربية. ويقول بعض المحللين: مثل هذه الجامعة أفضل لها أن تبقى غائبة، حتى لا تعود إلى قرارات ترحل أو تحفظ في الملفات، ولئلا تكون عبئاً يعمق الأزمات بالجملة بدل المفرق. ويكاد المختصون والمراقبون في سائر الأقطار العربية، يجمعون على أن ''النظام العربي'' في حالة وهن وتفكك شديدين، بل هناك من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في نعي ''النظام العربي'' والسير في جنازته إلى حالة الاضمحلال. وهذا ليس بجديد، فالأنظمة العربية لم تنجح يوماً في حل أي أزمة سياسية واجهت المنطقة طوال العقود الماضية بمعزل عن التدخل الغربي ومشاريعه، وذلك لسببين: الأول، عجزها عن إيجاد حلول عربية تحافظ من خلالها على المصالح الوطنية للدول العربية وسيادتها وعلى المصالح القومية، نتيجة افتقارها سيادة القرار ووطنيته، ومثالنا على ذلك جدار المقاطعة للكيان الصهيوني الذي تحطم على مدى السنوات الأخيرة رغم ما يسببه ذلك من ضرر على القضية الفلسطينية، وكذلك الموقف مما حدث في مصر وتونس، إذ حافظت تلك الأنظمة على صمتها حتى خرجت واشنطن بموقف واضح وجلي منها. أما السبب الثاني فيكمن في ارتباط مصالحها مع المصالح الغربية وخروجها من دائرة المصالح القومية العربية. ففي هذا الزمن العربي الأسود الذي بلغنا فيه قرارة الهاوية، من كان يصدق أن محمية مجهرية على ساحل الخليج، تختبىء تحت إبط قاعدة حربية أمريكية، يمكن أن تتصدى لكتابة تاريخ العرب الجديد بمداد النفط والغاز، وتتطوع لتروج خديعة جديدة في عقول العرب، تنسيهم خديعة لورانس العرب وكل الاستحقاقات المرّة التي حصدوها من قمح الشريف حسين وثورته العربية الكبرى، ومن كان يصدق أن شيوخ هذه المحمية البطرة سوف يطلقون خيولهم في موكب الناتو للسطو على ليبيا، ويشدون قاهرة المعز من أذنها كي توقع على قراراتهم الجاهزة في محفل عربي عليل كان يدعى جامعة الدول العربية. هو الزمن العربي الأسود، الذي عليك فيه أن تصدق كل الأكاذيب الفاقعة، وتطرد من وعيك كل الحقائق الناصعة، وأن تقتنع أن هذا المشهد الكاريكاتوري الذي تتداوله أيامنا الحاضرة من مسرح إلى آخر، هو حصة العرب الوحيدة من دنياهم، مشعوذون بلباس القادة، وثورات ملثمة لا تكتمل طهارتها إلا بقذائف حلف الأطلسي، وقرارات استراتيجية كبرى يستقبلها العرب على هواتفهم الجوالة رسائل نصية من مكتب جيفري فيلتمان في واشنطن، لتقرير مصير أمة مليئة بالدول المختبئة خلف علامات الاستفهام!
وعلى وقع انسداد الأفق وغياب الحلول المنطقيّة، تتقدّم السياسات الغربية في انتهازيتها وفاشيتها، كما لو أنّ الدولة تعجز عن سداد الالتزامات تجاه المجتمع، فالأزمة تخلق الحلول قسراً، وكما تجرى الصفقات في السياسة، فيحتدم الاقتتال بين الليبرالين والعلمانيين والثورجيين والإسلامويين، على خطف الإدارة والحكم والسلطة والمجتمع، كذلك في الاقتصاد، يحضر الصندوق الدولي على مائدة الابتزاز والتفاوض والقروض (صندوق النقد الذي أعلن استعداده دعم التحوّل في جنوب السودان، الذي أعلن بدوره عن رغبته بإقامة علاقات مع إسرائيل)، وتسليم إدارة الاقتصاد لحفنة الليبراليين الجدد، والحلول القادمة قسراً على ساحات التغيير، فيسلّم الواقع استبداده واستقراره، ليخرج العرب من التاريخ، فيتقدّم الرجل الأبيض الاستعماري، الذي يحرس الصفقات والمفاوضات (أمريكا تدير التفاوض مع الإخوان، وقطر والسعودية تموّل وترعى، وتركيا تقدّم النموذج والدعم) فلا يبقى غير كفّ يد الدولة عن الانسياق في الشأن السياسي خارج حدودها، لتغرق في المستنقع العنفي والإجتماعي، وعلى وقع إعادة إنتاج الواقع الذي يتأزّم، تنكفئ الدولة إلى تفكيكها وتجزئتها وحضيضها وجاهليتها، فلا يعود سقفها أكبر من حفظ وحدتها، ووقف تمزيق جغرافيتها إلى طوائف ومحميات (لبنان نموذج قديم، الصومال والسودان نماذج واقعية، اليمن وليبيا وسورية نماذج تحت الطلب)، فتسلّم مفاتيح الاقتصاد إلى تجار الأزمات والحروب والصفقات، لتعلّق مشانق القطاع الحكومي، وتتلاشى الدولة اقتصادياً واجتماعياً، فيسهل ابتزازها سياسياً، إذ ينبغي أن تنتج حالة الهلع العام والفوضى الاجتماعية، واندحار الدولة وتفتيتها، فرصة ذهبيّة للتغيير، فالمآسي العظيمة والكوارث الرهيبة، تولّد حالات نادرة، لإعادة صياغة المجتمع والجغرافيا، كما ترغب السياسات النيوليبرالية: أليست مفارقة تاريخيّة أن يلتقي اليوم الإخوان والقاعدة وأمريكا وإسرائيل، على دعم وتبني عنف المعارضة ضد النظام الليبي سابقاً و سورية حالياً...؟ أليست الأسئلة الصعبة والمعاندة، التي تقفز اليوم في وجه الليبراليين والإسلاميين والعلمانيين والعسكر، في الميادين والساحات العربية (ميدان التحرير بالقاهرة نموذجاً)، هي ذاتها تلك التي لم تطرح قبل مئات السنين، لتتمّ الإجابة عنها، فالقطع معها، والبناء عليها؟.. أليست توفيقيّة وتصالح عصر النهضة العربي، للأسئلة العصية ذاتها: الأصالة والحداثة، التقدّم والتأخر، العلمانية والسلفيّة، التنمية والتخلف، هي ما يُخرج العرب اليوم من تاريخهم؟. في هذا الزمن العربي الأسود، نسأل عن العروبة، ماذا تعني غير صفات النفط والغاز، وشرائع التطبيع مع أحفاد هرتزل، وختم الملف الفلسطيني بالشمع الأحمر وتسجيله ضد مجهول، والعرب بل عروبة ماذا تعني غير ترسانات القواعد الحربية الأمريكية التي تنتشر من خليج إلى محيط، وقاطرات الاحتلال التي يمتطيها المشعوذون العرب وهي تجول بين العواصم كرياح السموم.

اخر تحديث الإثنين, 09 أبريل/نيسان 2012 10:36