''مثقف الناتو العربي''... والبحث عن ثقافة البترودولار...؟ طباعة

مصطفى قطبي/فاس
أصبح ''مثقف الناتو'' اليوم أخطر وأعتى تأثيراً من ''أزمة المثقفين''، فالفارق كبير بين أن تعيش طليعة إنسانية ووطنية مهمة أزمة حقيقية، فتعمل على تقصي أبعادها ومحاولة تجاوز آثارها، وبين أن تشكل الأزمة تلك الطليعة، لتحولها امتداداً لها، وتصبغها بملامحها، وتكسبها صفاتها، البعيدة كل البعد عن الوجه الأصيل النبيل للمثقف في أمتنا العربية.
بات الحديث عن تراجع عام شامل في القطاعات كافة، وعلى الصعد كلها، مجرد تحصيل حاصل، وهو الأمر الذي كرّس استخدام عبارات بعينها وألفاظ عن ''الفساد'' و''التردي'' و''السقوط'' و''الأزمة''، باعتبارها المفردات اللائقة بوصف وضع اتفق الجميع على أنه ''الأسوأ على الإطلاق'' منذ بدأ تدوين الأحداث التي مرت بالأمة العربية ووثقت أحوالها. وفي هذا السياق برزت عبارات ''التأزيم'' المختلفة، بحيث يُتبع لفظ ''أزمة'' بأي ''مضاف إليه'' يمكن توقعه، فتستقيم اللغة ومعها المعنى والدلالة، من دون الحاجة إلى ذرائع أو تفسيرات، ومن ذلك الحديث عن ''أزمة الضمير''.

أذهلني أن بعض ''مثقفي'' هذا الزمان العربي، يرون مفهوم الثورة كما لم يره مثقف في العالم، فهي الشارع الصاخب المليء بالرؤوس الحامية والفارغة، وبالحطام وأشلاء البشر والحرائق، ومثلهم منتهزي الفوضى الذين يضفون على أنفسهم ألقاباً وتوصيفات، ولا يرون في الثورة فعلاً تاريخياً بمقومات و ''شروط'' وأهداف تبدل طريقة حياة الناس إلى الأرقى والأكثر مدنية ولو سلماً، لا على الأوضع والأكثر همجية وبالدم والموت حصراً. أذهلني أن بعض ''مثقفي'' هذا الزمان العربي البئيس، يرون في الثقافة مجرد تراكم معرفي من الحروف والكلمات والمصطلحات، يمكن بيعه أو شراؤه أو المتاجرة به في كل سوق ولو كانت سوق نخاسة، ولا يرون فيها حلاً لمعضلات الإنسان، الأخلاقية أولاً، في طريقه إلى الحضارة، فيجتمعون تحت أي سقف يدفع ويمول، ولو كان سقف خيمة لقطري... خليجي... وبأخلاقية منتهية الصلاحية، ينيب عنه عضو كنيست إسرائيلي، تمنطق بورع الثقافة وجلبابها، وبرع في صنعة ''حديث الثورة'' و تصميم نماذجها السينمائية والمسرحية، ليؤمهم ويضبط ورودهم مناهل الماء المثلج والمناسف بعد كل مزايدة ثقافية في أصول التغيير العربي إلى الغد.
يذهلني أن بعض ''مثقفي'' عرب هذا الزمان البئيس، يرون في المثقف آلة للحذلقة والخطابة والعزف على أوتار المنابر، بزر يتقيأ جوفه المعرفي أياً كان وحيث كان... وبزر يعيد التهامه، كما لو أنه المأجور الطارىء في حرفة يصنع ما يريده الزبون، يقولبه برنين الكلمات والمصطلحات، ثم يلمعه بمسحة من نفاق الأنسنة والتعفف وحقوق الإنسان، ثم يرطبه بدموع تنهل من عيني تمساح. للأسف الشديد فقد فاحت رائحة الفساد من أولئك (المثقفين) الطارئين على الحياة الثقافية العربية، أولئك الناعبين على الشاشات، ولم تفلح الكاميرات المتطورة في إخفاء أحقادهم وجهلهم، حيث ترتبك وجوههم ليس بسبب بقايا ضمير بل استعجالاً لانطفاء الأضواء وتلقي المغلفات المحشوة بقليل من الدولارات ولاحقاً اليورويات، وكنت أحسب أن للفساد ميادينه في كل علاقات البشر التي ينهب فيها الطامع بعض المغفلين أو الخانعين، ما خلا الكلمة والثقافة، لأنني ظننتهما مقدستين كعتبات بيوت الله، فإذا بالمتعيشين الذين لم أسمع أحداً منهم يتقن لغته الأم يتمسحون على أعتاب العواصم الغربية والبترولية على حد سواء ليقبضوا ما لا يساوي قطرة واحدة من دم الوطن العربي، وهل من غرابة أن يطعن العاق أمه التي نسي حتى صفاء مفرداتها وأصالة روحها؟
فـ ''أزمة المثقفين'' العرب احتلت دوماً مكانة مرموقة في مسلسل التأزيم المعتاد، فالمثقفون ليسوا سوى كتلة الوعي الفاعلة في أي أمة، ومصادر قوتها الحقيقية، وطليعتها الإنسانية القادرة على تشخيص الوقائع، وكشف الخلل، واجتراح الحلول، وطرح المبادرات، وصولاً إلى التغيير الإيجابي المطلوب. وكان مثقفونا، كالمأمول دائماً، شجعاناً إلى درجة كبيرة، تعكس نضوجهم الفكري والإنساني من ناحية، وتجانسهم مع ''حال الرفض العام'' من ناحية أخرى، إذ أفردوا المساحات الكبيرة للحديث عن أزمتهم الخاصة والعامة في آن، معددين أبعادها، وموضحين آثارها وتداعياتها عليهم وعلى المجتمع والدولة. وفي ذلك قالوا إن ثلاثة أضلاع تُحكم حصاراً حول المثقف، مجسدة أزمته، أولها الاستبداد السياسي، وهم في ذلك محقون كل الحق، إذ يبقيهم رهن المطاردة والملاحقة وتحت سيوف العقاب والترصد، وثانيها المؤسسة الدينية التقليدية ذات الفهم الضيق الحرفي والمخالب الممتدة المفتئتة على سلطات الدولة المدنية وحقوق الإنسان، وثالثها الرأي العام غير المستنير، مجسداً ''سلطة العوام'' العصية على أي تحدٍّ، والممتنعة عن أي تطويع أو اختراق، والمصطدمة، بالضرورة، مع إشراقات الإبداع في تخطيها لـ''الثابت''، وتحديها لـ''المتفق عليه''.
فعندما تقرأ لمثل أولئك أو تسمعهم والحق أقول إني أقرأ لبعضهم وأسمعهم جرياً على الحكمة ''إن لم تقرأ وتسمع ما لا تحب، فلن تتعلم أو قل تتثقف'' فترى أعينهم أثقب من ''شهود عيان'' فضائيات الملوك والأمراء، يصفون لك الحاصل مثلاً في القرى السورية من قتل وتنكيل على يد النظام للناس المسالمين طلاب الحرية بأدق التفاصيل حتى لتكاد تعتقد أنهم من حملة الشعار ''الشعب يريد إسقاط النظام'' في صدر التظاهرات وعلى ظهورهم آثار السياط وعلى صدورهم آثار الرصاص، علماً أن القاعدة القانونية كذلك في واشنطن وباريس وأورشليم التي يجب أن يعرفوها لكونهم ''نخبة الناتو المثقفة'' تقول: ''إن في الوقائع لا تقبل الشهادات السمعية''، ولكن كما الشعراء ما يحق لهم لا يحق لغيرهم! لا يرون غضاضة في اتخاذ مواقف تتقاطع مع أوباما وآشتون وما خلفهما وما أمامهما ونتنياهو والظواهري والعرعور والملوك والأمراء والأجراء، لا بل يروحون يبررونها باختلاف المنطلقات وأكثر من ذلك بدمع على الحقوق الإنسانية المداسة والحرية المراقة في ساحات سورية المصونة في الساحات الأوروبية، وكل ذلك من على موائد الكافيار في الشانزيليه أو في الحي اللاتيني، والأنكى عندما يكتبون عن التدخل الأجنبي تراهم يقولون: ''نحن ضد التدخل الأجنبي ولكن إذا حدث(! ) فالمسؤولية على النظام''. وأما أنت الرافض أن تكون في هذا التقاطع، فإنك متحجر فكري لا بل عاجز فكري أو عاقر أيديولوجي، هذا وإن ''الله ستر'' ولم تكن عاقراً إنسانياً ومع القمع وعدو الحرية، وباختصار لستَ مثقفاً! وللممانعة والمقاومة وللمحاور وللمشاريع وللمواخير في الخليج وللدم الأفغاني والعراقي والليبي والفلسطيني والكردي، وللجوع في الصومال وفي حواري باريس ولندن وشيكاغو عندهم معان غير كل التي تعرفها، وستصير تفهمها فقط عندما يُصلب الأسد ويصير غليون والغادري حكام سورية، وعندها فقط ستصير من عداد المثقفين النخبويين. وإن انتصرت سورية الإصلاح، فستبقى بين الظلاميين لأنه حينها سيقلبون ولن يفتقدوا الحجة، ولن يبقوا لك مطرحاً.
ويمكن القول إن ''مثقف الناتو'' اليوم بات كياناً واضح المعالم، مكتمل البناء، بشروط ومواصفات وأنماط أداء محددة. فقد أورثه الاستبداد السياسي، ومعه التسلط المستمد قوته من التفسير الخاطئ للدين و''سلطة العوام''، خوفاً تقليدياً يمكن تفهمه، خصوصاً وقد تعرض مثقفون حقيقيون من خيرة صناع ثقافتنا ومبدعيها لهجمات شرسة مريرة، استهدفت حياتهم، أو أودعتهم السجون، أو ألجأتهم إلى المنافي، وحطت من شأنهم بين العوام. وبات قطاع من ''مثقفي الناتو''، إلى ذلك، مأخذوين بالتطور الاقتصادي المادي في نزعاته الاستهلاكية، التي شهدت حدوداً قياسية من السفه والجنون أحياناً، فلجؤوا إلى توظيف أرصدتهم العلمية والثقافية لزيادة نفوذهم الاجتماعي، وتعظيم مردودهم الاقتصادي، أو تحسين أوضاعهم السياسية، فانتهوا إلى عكس كل ما بدؤوا به، وبعدما كانوا مضرباً للمثل في العلم والخلق والوطنية أحياناً، صاروا جديرين بالاحتقار، الذي ما لبث أن عزّ عليهم حصده، فلم يبق لهم سوى الشفقة، ومن بعدها الرثاء. وعف آخرون فقبضوا على مواقفهم تجاه السلطات الثلاث، بعضها أو معظمها، وراحوا يمولون بقاءهم من مصادر أخرى، من منظمات أجنبية وجمعيات مشبوهة تحت عناوين براقة، وفي الأحوال كلها حافظ معظم ''مثقفي الناتو'' على خطاب دائري عقيم، ولغة تسفيهية، وجدل أجوف، مستخدمين مصطلحات العمالة والتخوين، وعازفين عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلاً لائقاً لتبنيه والبناء عليه.
وبالإضافة إلى تلك الاعتوارات كلها، بات ''مثقف الناتو'' متمترساً في أيديولوجيته، طالباً من نظرائه الاصطفاف خلف تياره، وإعلان هوياتهم لا إعلان مبادئهم. يعاملك ''مثقف الناتو'' كتابع مفترض ذليل، ويفترض فيك الانضمام إليه والحديث برأيه وربما استخدام تعبيراته، وهو جاهز باتهامك بـ''البيع'' أو ''الانتهازية'' أو ''العمالة'' وفي أفضل الأحوال بـ''الاستلاب'' و''السفه'' إن أنت لم تتفق مع طروحاته وأفكاره.
لقد تجلت أزمة المثقفين العرب بوضوح خلال العدوان الغربي والعربي القطري الخليجي الهمجي على ليبيا وعلى سورية اليوم، فكرست حالة ''مثقف الناتو''، الذي اصطف أيديولوجياً، واتخذ مساراً مبدئياً، لم تغيره تتابعات الأحداث أو انكشاف الحقائق أو تدفق المعلومات، فظل ''محتكراً وحيداً للحقيقة''، و''نبياً وطنياً نبيلاً في مواجهة عملاء وخونة''. وأسوأ من القصف والإرهاب والتقتيل الذي تمارسه العصابات الممولة عربياً بأموال الخليج والمدعومة بإعلام النفط الخليجي، مقالات بعض ''بعوض'' المفكرين والمثقفين العرب، الذين يغذون أفكارهم بمص الدماء العربية السورية النقية والطاهرة، فبعض الكتبة الذين يقبضون من قطر والسعودية بالعملة الصعبة، جذبتهم ''المؤثرات الصوتية'' الصاخبة، التي تضرب ''طبول'' الديمقراطية، أو تنفخ في ''أبواق'' الحرية، أو تعزف على ''وتريات'' التغيير... من دون التدقيق في حقيقة أهداف هذه الموسيقى التصويرية، لمشاهد القتل والتخريب والفتنة.
بالتأكيد لا يليق ''المفكر والمثقف'' وهم الذين يشكلون على الفضائيات المتورطة، الطبل والزمر لهذا المخطط المدمر، أن يظهروا على هذه الدرجة من السطحية، بحيث تأخذهم الظواهر بعيداً عن الوقائع. ولا أدري كيف تنبذ هذه النخبة المفترضة الوقائع، وتتمسك بفبركات الشهود العميان، وتستند إلى شهاداتهم المتخيلة، لإضفاء الشرعية الوطنية على شريعة المصالح الأمريكية وفوضاها الخلاقة.
وباختصار، فـ''مثقف الناتو'' مأزوم حقيقي، لا يعول على أحد إلا ذاته، ولا يثق بأي كائن خارجها، يطرح يأساً وتفسيرات مجترة لوقائع يختارها مآساوية ومغلقة، فيما توقف عن إبداع الحلول وطرح البدائل وتخيل السيناريوهات، وكف عن احترام العمل الجماعي والإيمان بنظرائه وقدرتهم على القيام بأدوارهم المفترضة وإنتاج الأفكار والرؤى المعتبرة حتى في حال تصادمت مع تحليلاته أو معتقداته ومواقفه. والملاحظة المؤلمة أن أكثر الناس استدعاءً للتاريخ بجانبه السلبي هم أمثال هؤلاء المثقفين، وأغلب هؤلاء تراهم وهم يتكلمون يحاولون إخفاء أفاعي التاريخ ولكن لا يستطيعون لأن فحيحها الذي يخرج مع كلماتهم يفضحهم.
فالثقافة الوطنية والمحلية، حتى لا نقول الدينية، يجب أن تفرض واقعاً جديداً آخر مختلفاً يحرر البلاد والعباد من ذهنية الوصاية والتبعية والاستنجاد بالمستعمر القديم أو حتى إسقاط كل اتفاقيات الإذعان بكل تفاصيلها وبنودها. وهذا واجب المثقفين الحقيقيين في العالم العربي من محيطه إلى خليجه. في الجانب السوري، يبدو أيضاً أن المثقفين أمام فرصتهم التاريخية لبناء إنسان جديد حر. فالصورة قاتمة إن هم تركوا الساحة للنفط والسلاح والأميين والظلاميين يحكمون السلم والحرب ويقررون مصير الأمم، كما هو حاصل الآن في عالمهم العربي. والفرصة سانحة في هذه ''الشام'' ومنها حيث الأرض خصبة والناس مجمعون على رفض الاستعمارات الجديدة وباحثة عن نخبها الثقافية ورافضة للعنف الظلامي، الانكشاري، الطوراني، التلمودي المتحالف تحت راية جامعة عربية أوجدها الاستعمار القديم وأبقاها خلية نائمة ليوم يبدو أنه قد أتى. كان الأولى لكل مدع من أولئك المثقفين الذين يكتبون تحت الطلب، أياً كانت حصيلتهم العلمية والمعرفية أن يتخلصوا من ادعائاتهم، ويقفون وقفة المعارض لكل عِلم ومعرفة كريهة، والحرب في مقدمتها لأنها تهدد بالكوارث والويلات التي لا حصر لها، والحياة على الأرض اليوم كما بالأمس تنطوي على الأصالة والزيف، وما الأصالة إلا الفاعلية الإنسانية والتمهيد لها والمساهمة فيها لكل ما يؤسس للأصالة ويستبعد التقليد، لأن التقليد نوع من الزيف الذي يوفر لصغار القوم من المثقفين، فرصة الثرثرة المأجورة التي تبغي الشهرة والمال على حساب الرأي الحر الذي يشرع لخير الإنسان.
وأسأل بعض المدّاحين المثقفين في هذا الزمن العربي البئيس، الذي أصبح الكذب فيه مدخلاً لغزو القلوب، واستمالة النفوس، وحرف العقول عن مسار التفكير الصحيح، فيما إذا كانت قيمة المكاسب التي ينالونها من ممدوحيهم تعادل عشر معشار ما يقولونه فيهم...! وطبعاً هم لا يمدحون حباً وإعجاباً، ولا وفاء واحتساباً، وكلنا يعرف أنهم المنقلبون يوم تنقلب الأيام وتميل كفة الزمن، وأن الباقين على الوداد أولئك الذين لا يتقنون فن التملق والخداع، ولا يعرفون صيغ المبالغة والتفخيم، المؤمنون بأن أعذب الكلام وأصدقه هو الذي لم يقل بعد، وأن أنبل العواطف أكثرها بعداً عن الابتذال والنفاق، وأكمنها في القلوب والنفوس، الثابتون على المبادىء الذين لا يقبلون إذا أقبل الدهر، ولا بدبرون إذا أدبر، القائلون الحق عندما يتعذر قوله، المنصفون إذا حكموا، الصادقون إذا سئلوا، الثائرون إذا ظلموا، الصائنون لما عاهدوا، المؤتمنون على ما أسرّوا، الناصحون إذا استنصحوا، ويبقى أن نذكر الممدوحين بقول الشاعر:
ولا خير في ودّ امريءٍ متقلبٍ  إذا الريح مالت مال حيث تميلُ