سعدي يوسف في غرفة شيراز.. طباعة

السفينة في مرسى القراصنة.. وإني أنتظر!
جريدة النهضة/زيد قطريب

مجموعة جديدة أشبه بقصيدة طويلة صادرة عن دار التكوين بدمشق بعنوان «غرفة شيراز» تختصر بمقاطعها الفرعية المندرجة تحت عناوين مختلفة، حالة بانورامية واحدة لانفعالات عميقة تشكل في مجملها تجربة سعدي يوسف وقراءته للمكان والأشياء والأسى الإنساني في أشد مراراته أو غبطته، سعادته إلى شعوره بالخذلان..

ورغم أن الشاعر يفتتح الكتاب بقصيدة «غبطة»، إلا أنه ما حجم الأسى المقبوض عليه في هذا النص القصير الذي يشكل فاتحة البانوراما الكلية للمجموعة، يظهر وكأنه المحرك الخفي خلف كل تلك التداعيات المكتوبة كمحصلة ومجموعات كبيرة من العبر والنداءات، يقول في فاتحة غبطته:
أصابع القدم اليسرى، تنمّلُ
جسمي واهن
وعلى مشتى البسيطة، كان الليل
أطول حتى من معلقة امرئ القيس
كان الليلُ...
يرتب سعدي تلك المقاطع على شكل حالات تفصلها مجموعة سطور مليئة بالنقاط، كأنه يترك مجالاً لمخيلة القارئ كي تستحضر المشهد البصري وتشحذ أدواتها ثم تتحضر للمشهد التالي، الذي ستتبعه أيضاً النقاط ذاتها، إنها فاتحة البدايات وربما النهايات أيضاً، فالشاعر الشيخ الخبير والماهر في الالتقاط، يبدو موحشاً وبارداً من حجم الهول الذي تأتّى من خزان خبرته الثر:
أنهضُ
أخطو
أنثني وجلاً، مستنفداً، صوب شباكي
وألمسهُ
لعلّ روح الزجاج،...
اللافت أن الشاعر لا ينهي الجملة كالعادة، وكأن الكلام مبتور عن عمد ليترك للقارئ تخيل التتمة كما يشتهي أو مثلما تجتهد مخيلته وهي تتصور المكان والإحساس، وهو عادة دأب سعدي على صنعها كثيراً في نصوصه، هنا يبدو الكلام زائداً لذلك يقرر الشاعر أن يتوقف لكنه يترك دلالة وضع الفاصلة بعد كلمة الزجاج، ليتبعها بمجموعة نقاط تغني عن القول.. لذلك لا يبدو غريباً أن يبدأ بعدها بكلام جديد وحالة أخرى فيقول: «الليل يثخنُ.. حتى في البحيرة أمسى الماء.. لوح رصاص»!.
نقلات نوعية وحادة لكنها مليئة بالأسى نفسه، يحدثها الشاعر بين عناوينه الكثيرة في هذا الكتاب، فلا ينسى محطة قطار إكسبرج، والمكان تحديداً عن باب المحطة حيث القبلة الطويلة مع ليزا تعيده إلى نفس المكان لينتظرها رغم أن رائحة الحقيبة المبتعدة تشير إلى أن السفر قد أوغل في البعد وانتهى الأمر:
«تغمغم إذ أقبلها طويلاً
على باب المحطة
ثم تمضي، وقد سحبت حقيبتها القماش
ولم تقل حتى وداعاً،..
... سوف أظل آتي
إلى باب المحطة
سوف أبقى هنالك ثابتاً
ليلاً نهاراً
فقد تأتي وقد شدّت بحبل
حقيبتها القماش،
أحب ليزا».
يعود سعدي أدراجه إلى العراق في انزياح عاطفي حاد ليشهر سيفه بوجه الذين «ارتضوا أن يكون العراق فندقاً لا بلاداً»، يمر بالبصرة الأم ويؤلمه أن تتحول إلى «مبغى الخليج» وأن تتنصل بغداد من اسمها.. فلا يريد أن يصدق أن العراق انتهى.. فيسخط ويقرر:
«هؤلاء
سوف أجمعهم ذات فجر
بمقهى على جزرة بالفرات
وأحفر أسماءهم في جماجمهم
وهم الصاغرون..»
عناوين المقاطع عند الشاعر تشرح سلفاً الجو الذي سيدخل فيه: «أواخر أيلول.. هل التبس علي الليل؟.. رباعية الضوء البعيد.. مياه تعج بالكواسج..» وهي قصائد فيها الكثير من الحكم والمآلات الفلسفية ربما: «حتى الإله الذي كان سواكَ.. يعرف أن العبور الذي لا يؤدي، هلاك..» وهو كثيراً ما يعود إلى إرثه الأيديولوجي ليستقوي به جراء حجم المواجهة التي يخوض في هذه الغربة والوحشة وانتظار الأخبار:
«إذاً: لن يموت الشيوعي
إن الشيوعية الحلم أبعد من أن تموت»!.
تلك المسألة الفكرية تلاحق سعدي أو هو يلاحقها دون كلل لدرجة أننا نعثر عليها في أكثر من مكان في هذه المجموعة مثلما هو الأمر في كتب أخرى، كأن الشاعر يعيش جدله الكبير في الضواحي النائية في بلاد الاغتراب، يتلقف الكون والوطن على نحو مختلف بعد هذا العمر من امتلاء الكؤوس إلى تخمتها، كيف لا وهو الماهر والصاعق في هذا النوع من الكشف والمواجهات:
«آن أُمسي وحيداً
في الضواحي الغريبة
في مثل هذا المساء الذي يتضوع بالثلج
هذا المساء الذي لا أرى نجمة فيه
أو شمعة،..
ليس لي أن أحدق في البعد
كي ألمس النجم،
ليس علي اشتواء يدي لأرى شمعة
هكذا،
ليس صعباً علي اعترافي بأني وحيد
(لأني، فعلاً، وحيد!).

اخر تحديث السبت, 07 يناير/كانون ثان 2012 12:45