من قاسيون أطلّ يا وطني طباعة

سليمان الحكيم

عندما بدأ ربيع الثورات العربية ينوّر وبدا أنه يوشك أن يحقق أهدافه بالحرية السياسية وبالعدالة الإجتماعية , تحركت قوى الظلام المعادية للحرية والتقدم على الفور وبدأت تحيك مؤامراتها لتحوّل هذا الربيع من وعد إلى وعيد , ولتقلبه إلى جحيم لا يبقي ولا يذر , ويدفع الشعوب إلى التحسّر على الأمن الذي كانت توفره الأنظمة الديكتاتورية . ولقد كان مقدّراً أن تتكرر في سوريا تلك الجريمة المفضوحة التي تدور اليوم في ليبيا والتي حاك تفاصيلها تحالف يبعث تعدد أطرافه وتنافرها على الدهشة , فمن الولايات المتحدة وتوابعها من دول الخليج العربي , إلى فرنسا وبريطانيا وتوابعهما الليبية من ليبراليين وإخوان مسلمين ,

الى ايران وأتباعها المطالبين بثأر مزعوم لرجل دين كان واحداً من المتعيشين على عطايا القذافي ,  الى اسرائيل الحالمة بالالتحام بنسيج المنطقة بعد وعود ليبية بتطبيع العلاقة معها , إلى تنظيم القاعدة بولاءاته التي تبدأ من دولة قطر وتنتهي باسرائيل مروراً بإيران .  و قد يفسّر دسم الجائزة الليبية قيام هذا السيرك وتوافقه على إسقاط العقيد القذافي , خاصة و أن الولايات المتحدة تعاني أزمة اقتصادية حادة تهدد بكساد يماثل ذلك الذي ضربها عام 1929 , وأن أوروبا الغربية تمرّ بأزمة مالية خانقة تحتاج معها إلى 400 مليار يورو لتتجاوزها ؛ وأن تنظيم القاعدة يبحث عن موطيء قدم بعد الضربات القاسية التي تلقاها في الشرق , وأن الإخوان المسلمين يسعون  وراء حلمهم الأزلي في السلطة حتى لو وصلت إليهم على طبق طبخته الشياطين , وأن ايران تبحث عن قاسم مشترك مع الغرب تخفف به حدة صراعها معه .             
............................
...........................
كان للإستجابة السريعة التي أبداها الرئيس السوري لمطالب شعبه في الإصلاح السياسي ووضع دستور جديد يتيح تداول السلطة وينهي حكم الحزب الواحد ويضمن الحريات , ومبادرة النظام في التطهير الإداري لتخليص سوريا من وباء الفساد الذي أصبح سمة فاضحة للدولة , أن أنشغل الشعب السوري بحوارات ومناقشات جادة تضع بلده على عتبات عهد جديد يرتقي به نحو مشارف العصر , وتتيح للربيع السوري أن ينوّر خيراً وحرية وعدالة ويحفظ لسوريا كيانها وسيادتها .      
ولم يكن بوسع الظلاميين ودول الغرب الاستسلام والقبول بإجهاض مؤامرتهم لتمزيق سوريا الرافضة للشرق الأوسط الجديد الذي يمنح اسرائيل صدارة عضويته , ويفتح الباب للإستثمارات الأجنبية ويضاعف ثروات الطبقة الرأسمالية الطفيلية ويزيد الفقراء فقراً , وينبذ مفاهيم المساواة والكفاية والعدل ودولة الرفاهية ؛ وكذلك تحركت تلك القوى لتنثر بذور الحرب الأهلية والطائفية في سوريا , ولتحاول تمزيق قواتها المسلحة , وتمعن في تخريب منشآتها العامة ,  وتغتال كفاءات علمية ووطنية مرموقة , تماماً كما حصل في العراق عشية الإحتلال الأميركي .                                               
من هي تلك القوى التي تمثل مخلب الإستعمار الجديد في هجمته على سوريا ؟                                                 
1- الإخوان المسلمون : لم يفتر الإخوان المسلمون عن السعي إلى السلطة منذ تأسيس حركتهم على يد الإحتلال البريطاني في مصر سنة 1929 , وتوسلوا إلى ذلك الإرهاب والتخريب قبل وبعد ثورة يوليو 1952 , وبعد أن باءوا بالفشل الذريع وأوشكوا على الإنقراض بعد أن لفظهم الشعب المصري الذي كان ملتفاً حول نظامه الوطني , هرب معظمهم إلى السعودية ليخدموا دعوتها الطائفية ومعها أغراضها السياسية الممالئة للغرب ؛ وهذا بالضبط ما يقومون به في سوريا منذ 1958 عندما استأجرهم النظام السعودي لتخريب الوحدة المصرية – السورية , ومن بعدها عام 1980 لتأجيج فتنة طائفية كانت بؤرتها مدينة حماة , ومازالوا يواصلون دورهم المأجور لحساب الحكم السعودي ومعهم عثمانيو تركيا ذوي الجذور والتوجهات الإخوانية . كذلك جنّدت السعودية في حملتها على سوريا اليمين اللبناني العريق بعلاقته مع اسرائيل ومعه بطبيعة الحال غلمان آل الحريري الذين يشاركون بتمويل وتسليح الإرهاب المتأسلم في سوريا عبر شيوخ سلفيين معروفين بالإسم يتخذون من مدينة طرابلس وكراً يبثون منه سمومهم الطائفية .                                                           
2- تنظيم القاعدة : تموّل قطر – الوكيلة العربية لاسرائيل –  جناحاً كبيراً من تنظيم القاعدة وتروّج له إعلامياً من خلال قناة الجزيرة , وقد استغلت القاعدة تداعيات الربيع السوري لتتسلل إلى سوريا بهدف إقامة إمارة طائفية ,  وفي الوقت ذاته لخدمة هدف قطر في أن تعتمدها الولايات المتحدة – مثل اسرائيل – كقاعدة حامية لمصالحها في المنطقة العربية ؛ وفي واقع الأمر كان ذلك هو الثمن الذي دفعه أمير قطر للأميركان لقاء دعم انقلابه على أبيه و نفيه من البلاد , ثم حماية نظامه من محاولات الانقلاب العسكري المتكررة ضده .                                                                                
3- الأكراد : تؤوي أربيل منذ العام 2008 أكراداً مناوئين للنظام في سوريا , وتسهّل لهم التنسيق مع أكراد تركيا الذين يتخذون من جبل قنديل قواعد لهم , وتمدهم  بالمال والسلاح والخبرة العسكرية , ويأمل مسعود البرزاني من وراء ذلك تحقيق وهم أغواه به الاسرائيليون مؤداه أنه سينجح فيما أخفق به ملك كردستان الأول محمود الحفيد , وأنه سيصبح  بتحالفه معهم وبالحماية الأميركية وبدعم بعض دول الخليج العربي , الملك الثاني لكردستان الكبرى ؛ وكذلك ينشط أكراد سوريا بالتواطؤ مع عملاء الغرب ومع المتأسلمين لإذكاء الفتنة في سوريا وصولا إلى إغراقها في حرب أهلية يخرجون منها بمنطقتي القامشلي والحسكة لإلحاقها بإمارة مسعود البرزاني ؛ والمدهش أن العثمانيين الجدد في تركيا يتعامون عن هذا التآمر الكردي الانفصالي في حين أنهم والغون حتى آذانهم بدم أكراد بلادهم !                                             
4- حلف الألسي : تتمتع سوريا بموقع استراتيجي على مفترق طرق بين أوروبا وآسيا , وهي في قلب الوطن العربي ما بين شماله الاسيوي وجنوبه الافريقي , و قد أصبحت بحكم جوارها المباشر مع فلسطين , وقربها الشديد من موارد الطاقة في الخليج العربي , هدفاً لا يمكن للمصالح الغربية أن تتجاهله , ولا تقبل أن يخّرب استراتيجياتها وخاصة تلك المتعلقة بما يسمى بالشرق الأوسط الجديد ؛ وقد لا تملك سوريا اليوم توازناً عسكرياً مع اسرائيل , إلا أنها بإصرارها على دعمها للقوى العربية الرافضة للاستسلام للأمر الواقع الاسرائيلي , وللهيمنة الاقتصادية الغربية , قد وضعت نفسها في بؤرة انتباه اليمين الغربي المحافظ , وكذلك كانت الصيحة الغربية بإسقاط النظام السوري,  ووجدت تلك الصيحة صداها لدى مأجوري الغرب من ليبراليين ومتأسلمين وطائفيين لجأوا الى سفك دم مواطنيهم وتخريب منشآت بلدهم , في حين كانت العقوبات الاقتصادية و الإعلام الكاذب والحرب النفسية وسائل الغرب في حربه على سوريا , ولكن وسائل هذا الإعلام لم تجد ما يدعم أكاذيبها سوى مصادر تافهة تفتقر للمهنية و الثقة , مثل شهود عيان مزعومين أو شرائط تلفزيونية يبدو ظاهراً فيها التلفيق والتزوير , أو شخص مجهول ينتحل لقب رئيس تنسيقيات الثورة , أو مرصد لحقوق الإنسان يديره سوري في لندن يبث ما يدور في كل مدن سوريا وأزقتها لحظة بلحظة برغم اعترافه بانقطاع الهاتف والانترنت , أو مرتزقة بملابس عسكرية يزعمون انشقاقهم عن الجيش السوري بعشرات الآف , وفي واقع الأمر لم يتمكن هذا الإعلام بكل قدراته على التلفيق سوى توثيق فرار ثلاثة ضباط الى تركيا أعيد منهم واحد , وقد قيل لهم في غالب الظن أن الأمم المتحدة ستعيد توطنيهم في دول أوروبا حيث الراتب الكبير والحياة الرغدة والكسل اللذيذ !                                                    
 ..............................
..............................
يلفت الانتباه بشدة أن اسرائيلياً فرنسياً يُدعى " برنار ليفي " هو الذي فتح أبواب القصر الرئاسي الفرنسي أمام المعارضة الليبية , و " برنار ليفي " نفسه هو من يتولى اليوم رعاية المعارضة السورية وتزكيتها لدى الرئيس الفرنسي , وفي ظني أن هذا وحده يكفي لتعرف سوريا عدوها , وليدرك الشعب السوري حقيقة معارضة الخارج .                                    
 ليس من شك أن سوريا بحاجة إلى عملية إصلاح واسعة وجذرية , ولكن لا يجوز أن يجري تحت هذه اللافتة تمرير مؤامرة كبرى تستبدل عملاء الغرب وظلاميي الإرهاب الديني بالنظام الحاكم أياً كان الرأي بشأنه , وشاهدنا على ذلك الربيع الليبي الذي تسبب بدمار لليبيا تتجاوز قيمته الثلاثين مليار دولار , وتتطلب إعادة بنائها أرقاماً تقارب ما يحتاجه الاقتصاد الأوروبي للنهوض من عثرته الثقيلة , فضلا عن أن مستقبل ليبيا مقلق ووحدتها غير مضمونة , تقطع بذلك نظرة واحدة على انتماءات حكامها الجدد . ولماذا نذهب بعيداً ؟ لقد تآمر الغرب على احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني بالتواطؤ مع عملاء عراقيين من اليمين الليبرالي وحتى الحزب الشيوعي, و من الإخوان المسلمين وحتى الأحزاب والتيارات المتشيعة , فماذا كانت النتيجة ؟ مزيداً من القمع والفقر وفساد غير مسبوق عالمياً , وتقهقراً نحو التخلف الحضاري والارتداد الفكري والانحطاط الأخلاقي , وتهديداً جدياً لوحدة العراق وسيادته , واضمحلالا لقيمته الدولية والاقليمية , وتفشي أمراض العصور الوسطى في ربوعه من أمّية وجهل وتسيّد رجال الدين وهيمنتهم على الحياة العامة .