لأنه سعدي يوسف طباعة

طالب عبد العزيز

في اللقاء الذي أجراه علي الرباعي مع سعدي يوسف سأله : متى خرجت من البصرة فرد سعدي : لم تخرج ولم أخرج، فهل يخرج المرء من جلده؟ إلا أن الأزمان العجيبة تأتي بكل عجيب، البصرة مولدي، وملعب صباي، والانطباع الأول في العينين، عليّ أن أحملها مثل كنز وأطوف بها ومعها حتى أقاصي الدنيا، ولعلك تلحظ أنه على رغم نطقي بثلاث لغات، ومعرفتي باللهجات العربية بحكم تنقلي في أرض العرب، إلا أن لهجة البصرة لا تزال هي المتحكمة، ليناً في النطق، وخفة في مخارج الحروف، وفصاحة.

أوقفت الصحافة الثقافية العراقية احتفالها بسعدي يوسف بعد واقعة تفجير المرقدين في سامراء،عام 2006 كما أظن ،وكانت تحتفي به شاعرا عراقيا كبيرا،ومناضلا شيوعيا معروفا ، تترقب عودته ،وتتسابق الصفحات باحثة عنه في مواقع الانترنيت، سعيا وراء نقل أشعاره وقصائده وأخباره،ترى هل كان سعدي يقامر باسمه وتأريخه ومجده الشعري ،بوطنيته وماضيه الإنساني ،وكيف نفهم امتداحه (للمقاومة) أي مقاومة ؟ هل تعجل بآرائه في بعض ما كتب،وهل كان السياسي أفصح من الشاعر فيه،وسط لجة بحر ألم العراقيين الكبير،وهل يصح ما يتقول عليه البعض من المتشددين لطوائفهم بأنه (طائفي) وإذا صحت فرضية أن بعض أصدقائه من الأدباء اختلفوا معه هناك ،أو حملوا اختلافهم معه إلى هنا،فكتبوا عنه أو كتب عنهم،ما شاننا نحن،الذين نحبه شاعرا،ونفهمه إنسانا ،ويحترمنا مثقفو العربية لأننا من بلده؟ هل كان سعدي يمثل وجهة نظر (كريهة) لنا جميعا؟
يقينا لا،لكن ،وعلى الرغم من تباين الآراء بشأنه،وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس اليوم ، فأن سعدي يوسف،أكبر شاعر عربي حي،باعترافنا ،نحن المثقفين العراقيين والعرب،وربما أكثر من ذلك ،فهو معروف جدا ،وعلى نطاق واسع ،لدى كتاب وقراء الثقافة بالانجليزية والفرنسية ، وهو قطعا لا يحتاج لمن يمتدحه أو يدافع عنه،ولن أقوم هنا أبدا ،بمقام المحامي ، لأني سأحاول،إن استطعت ، ترك قضية الاختلاف الرئيسية عليه (الموقف السياسي) لمن يريد،فأنا أتحدث عن سعدي الشاعر العربي،الذي غادر العراق قبل نحو من 40 سنة،لكنه لم يغادر المكان (بغداد،البصرة،أبو الخصيب،حمدان...) في شعره ،على الأقل ،رغم تشرده في البلدان وتنقله في الأمكنة،وإني لأذكر أنه قال لي مرة ،عبر الايميل : أتعلم يا طالب إني أفكر جادا بالعودة للبصرة.
ولكي لا يُؤخذ عليَّ موقفه من قضية الوطن والاحتلال (التغيير) و(المقاومة) ... أو يُحسب غفلة مني في التناول، لعلمي بأن البعض لا يحتمل الفصل بين الشاعر والسياسي،بين الإنسان في لحظتين ،أقول: كلنا يملك موقفا ورأيا في ذلك،لكننا نجمع على أن نهاية النظام السابق كانت حتمية إنسانية،ومطلبا شعبيا،وإرادة دولية ،أما الكيفية والنتائج فهي محط اختلافنا جميعا،لأن ما حصل بعد ذلك كان فجائعيا ،قاسيا،دمويا ،زاده ألما أننا لم نكُ نملك حيلة على درئه ورده أو تجاوزه.
ولن أتلفت لما كُتب عنه في الصحف والمواقع،مدحا وذمَّا ،آيتي في ذلك أنْ لا سلطان لنا على آراء وأهواء الناس،وهم من مشارب شتى ،وبكل تأكيد ،بيننا من لديه الحجة في المديح والثناء مثلما لدى غيره الحجة ذاتها في الاحتقار والذم ،وهذا ديدن الأحياء على الأرض،لكني أرى أن سعدي يوسف مثله مثل المفجوع بمقتل أبيه في الغابة المظلمة،أو في القفر البعيد ،وقد كثُرَ من حوله وصّافُو الواقعة،وأنا على يقين بأن ما حدث ويحدث في الداخل العراقي لم يُنقل بأمانة،وكما هو واقع، لا لسعدي ولا لغيره ،من الذين لم يدخلوا العراق بعد 2003 حتى من قبل أصدق الواصفين،وستظل الحياة بتقلباتها هنا قضية تخدع كل من لم يحترق بنارها،وقد أوهمت الصورة المحبين ،من الكهنة والمريدين وأصحاب الكرامات،الذين تمردوا على نظام القبيلة،حتى خرج شاعرهم فارسا ،مقاتلا ،عن نسائها الجميلات،مدافعا عن كرامة أهليه التي تعرضت للهتك والتحطيم على يد الغزاة .
لكنَّ ،ما يشمئز منه سعدي يوسف ويسجله نقيصة في أداء الشخوص والحكومات والمؤسسات العراقية على تعاقبها ،خلال السنوات الثماني الماضية نشمئز منه نحن، بكل تأكيد،ونسجله نقيصة وانحطاطا،ونتمنى أن نمتلك القدرة على تغييره ،مَنْ منّا تملّكه الرضا عن أداء مسئول عراقي؟ من منا يعتقد بأن القادم من الأيام سيكون أجمل -على مستوى الواقع ،لا على مستوى التمنيات - وهذا حالنا في الديمقراطية الجديدة ،بعد مضي أكثر من 200 يوم على انتخابنا (الديمقراطي) لحكومتنا الوطنية! ترى كيف حال ثقافتنا اليوم من وجهة نظرنا ،أبناء الداخل العراقي؟ أعطني مثقفا عراقيا واحدا لا يقول بأن ما تتعرض له ثقافتنا الوطنية ،بمعناها الكلي لهو الامتهان والاحتقار بعينه، كي أدلك على الآلاف من العراقيين القابلين بما يجري على ساحتنا السياسية والأمنية والاقتصادية...
وبعد،لا أعتقد بان سعدي يوسف ،الشاعر والسياسي لم يفرح بسقوط نظام حزب البعث وصدام حسين،شأنه في ذلك شأن غالبية العراقيين،لأن الحيف وقع عليه قبل أن يُولد بعضُنا،ويكفيه تأريخه ،أنه العضو في الحزب الشيوعي العراقي،بل يكفيه تشرده في البلدان ،منذ ستينات القرن الماضي إلى اليوم،أما أن نتحدث عن موقفه من النظام الجديد،والموت الجديد والدم العراقي الجديد،والسياسة العراقية الجديدة والتردي الاجتماعي والتخلف والجهل والفساد... فهذا ما لا يختلف عليه اثنان في العراق اليوم،لقد خسرنا الرهان جميعا، وهذا أمر وقع خارج إرادتنا بكل تأكيد ،لأن أمريكا هي من أسقط صدام حسين ،لا نحن ،ترى هل فقدنا الفردوس بسقوط النظام ؟ قطعا لا،إذن ما الذي خسره سعدي يوسف ؟ ما الذي ربحناه نحن ؟
بمراجعة بسيطة نرى أن مجموعة قليلة من الأدباء والمثقفين العراقيين -الشيوعيين بشكل خاص- هم من اختلف معه،وبظني أن الخلاف هذا فيه الكثير من ثقافة الغربة التي منها الحسد وضياع الفرص،وضعف الحيل وأتمنى أن أكون مخطئا بقولي هي في بعض مفاصلها (ظنينة طائفية)،لدى غير واحد من رفاقه ،أماتتها المشاعر الوطنية طويلا ،وأحيتها الأحداث أخيرا ، ولا أتجنى على أحد حين أقول بأن حضور سعدي يوسف الشعري الكبير جلب له البغضاء والكراهية،من أنصاف الشعراء وأرباع المثقفين، حتى جرت بينه وبينهم المكاتبات في الصحف والمواقع الالكترونية،كل حسب موقفه منه، شخصا وثقافة وسياسية،وقد كبرت لدى البعض الخلافات تلك فتحولت إلى شتائم واتهامات ومزايدات،فحمل البعض معوله انتقاصا وهدما،وجرى الذي جرى منه ومنهم.
إذن ما يشغلنا في قضية سعدي هو الثقافي بكل تأكيد،لكنَّ ما تصادى من مواقفه السياسية أولا وخشيتنا من ألسن خصومه (المقربين) أصدقائنا ثانيا ،جعلنا نصدق بأن تناول سعدي يوسف في الصحافة، والقبول به مواطنا شاعرا (خيانة عظمى) ناسين أن المئات من الشعراء والفنانين والكتاب ومن أجيالنا العراقية المختلفة يراسلونه يوميا ،يسألون عن صحته ومنجزه ،حبا وعتبا وتبادلا بالرأي وهو يرد على الجميع بأسرع ما يمكن،ترى هل عزلنا سعدي عن ثقافتنا بفعل خارجي؟ أم أن السياسي فينا تغلب على الثقافي فصمتنا؟
من النقيصة حقا،أن تغضّ صحافتنا طرفها عن الشاعر الكبير سعدي يوسف،وتغفل منجزَ واحدٍ من أكبر الشعراء في العالم ،إنه العربي ،والمرشح الأوفر حظا لنوبل اليوم، وسواء اتفقنا معه ،أو اختلفنا عليه فهو الأكبر بيننا ،ولنتذكر بأن أشقاءنا المصريين تغاضوا جميعا عن رحلة نجيب محفوظ الخارقة إلى أورشليم،(وهل بعدها جريمة بنظر البعض ) وها هم يقدمونه في صحافتهم ،إلى اليوم على طبق من ذهب خالص ،ولنتذكر أيضا أن قامة ألجواهري العظيم، -وقد عاد الخصوم توا من مهرجانه -،لم تثلمها قصائده في امتداح الملوك والسلاطين والرؤساء ،ولنتذكر بأن السيّاب الكبير ظل كبيرا،ننتسب لنحوله ومرضه وشعره وتقلبه في السياسة والحياة وهو القائل: الشعب ثار ومات قاسم أيّ بشرى بالشفاء.... فتعالوا إلى كلمة سواء،ندافع فيها عن ثقافتنا ورموزنا الوطنية،تعالوا نعيد النظر بتأريخنا العربي،بوعينا أمس،قبل أسبوع،قبل سنة.. بعيدا عن ضعفنا،بعيدا عن سلطة الأصدقاء الخصوم،لأنه سعدي يوسف .