سعدي يوسف في قصائد الخطوة السابعة والشيوعي الأخير: كما سيعود الغصن المقطوع إلى الشجرة! طباعة

زيد قطريب

كتابان شعريان للشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، يشكلان خلاصات حادة ومكثفة لسنين طويلة من الاغتراب والتنقل والانقلابات بين ما كانَ وما آلت إليه الأمور ليس على صعيده الشخصي فحسب، إنما على صعيد العراق والعرب والعالم الذي بدا وكأنه يخلع جلده من دون أن يتمكن الشاعر من فعل شيء سوى إمطاره بوابل كبير من المرثيات!.
في (قصائد الخطوة السابعة) و(الشيوعي الأخير فقط)، وهما صادران عن دار التكوين في دمشق، وفيهما قصائد كتبت بين عامي 2005 و 2010، يعيد سعدي بلغته القوية وأسلوبه المعروف نبش الماضي السياسي ليحدث مفارقات تبعث على الحزن فيما يشبه عملية كبرى للوقوف على أطلال لم يعد يظهر من آثارها شيء، وهو إذ يدمج عن عمدٍ، السياسي بالشخصي، ويمعن في التوحيد بينهما، يعود في نصوص أخرى إلى الجانب الثاني من همه الشخصي والانفعالي شديد الحساسية والخيال، فيرسل برقياته من لندن المبتلة بالمطر والغيوم التي لا تنكشف سوى عن كمّ هائل من الاغتراب واللوعة وربما الخذلان، كأنه يقوم بجردة حساب لأشياء تعدّ في قائمة الخسارات سلفاً، وكأنه يوثّق للقطات سبق أن حفرت عميقاً في ذاكرته وحان الآن أن تفعل الشيء ذاته على الورق!. ‏
أيديولوجيافي الشعر ‏

رغم الطابع الأيديولوجي لعنوان كتابه الأول (الشيوعي الأخير فقط)، إلا أن جرعات اللقطة الإنسانية والمفارقات التي تتقابل مع بعضها تنحو باتجاه آخر تماماً، فالشاعر يعطيها من ذاته وتجربته الشخصية الشيء الكثير ثم يزودها بالإسقاطات الكونية وأحياناً الفلسفية لتبدو أكثر شمولية من إشارتها في العنوان، ففي هذه النصوص يبدو سعدي كأنه يرثي ذاته أو يستعيد ما مضى من أيام تلك المرحلة، ليقابلها بكل ما يندرج تحت عنوان الخواء الآن، وذلك لا يدل فقط على حجم الأثر المحمول من صباوته الأولى، بل يشير في الوقت نفسه إلى مهارته الكبيرة في القيام بتلك الاستعادات السياسية بشكل فيه الكثير من الهم الشخصي والإنساني، هكذا يتتبع حالات الشيوعي الأخير الذي هو الشاعر نفسه في حقيقة الأمر، ليصور اندحاراته الكثيرة وأشجانه وفي الوقت نفسه آماله وإصراره على التشبث: ‏
(قال الشيوعي الأخير: سأستقيل اليوم.. لا حزب شيوعياً، ولا هم يحزنون!. أنا ابن أرصفة وأتربة.. ومدرستي الشوارع والهتاف.. ولسعة البارود إذ يغدو شميماً.. لم أعد أرضى المبيت بمنزل الأشباح.. حيث ستائر الكتان مسدلة.. وحيث الماء يأسن في الجرار.. وتفقد الصور المؤطرة الملامح..). ‏
لوغو سياسي ‏
يدأب الشاعر في هذا الكتاب، على إحداث مقارنات صعبة بين حالات شكلت جزءاً مهماً من تاريخه الشخصي، ورغم أن اللوغو السياسي يبدو منفراً ومباشراً في بعض النصوص، إلا أن عملية الاحتواء التي يفعلها سعدي تعمل على إلباس ذلك الشعار لباس الهم العام الذي يمكن أن يتوافق مع أي إنسان، ولولا تكرار تلك الكلمات ذات الدلالة السياسية في العنوان الخارجي وعناوين القصائد داخل الكتاب، وكذلك بين سطور النصوص، لظهرت قصائده مفرودة أكثر على الجميع، فالشاعر هنا يبدو مشغولاً باستعادات محزنة هي ليست إلا حياته وتاريخه الشخصي، تلك الأسئلة التي يبدو أنها استيقظت دفعة واحدة في بلد الاغتراب بعد انقضاء سنين طويلة من العمر، وكأن الشاعر يوثق أو يرثي أو يتساءل: ماذا بعد: ‏
(قلت: يا هذا، يجيء الناس كي يتعلموا الطيران!.. ‏
قال: لقد تعالينا.. تعالينا.. تعالينا ‏
إلى أن لم يعد خيط ولو واه يشدّ عروقنا بالأرض.. ‏
إني الآن أهبط بالمظلة.. ربما تتعرف الأعشاب رائحتي ‏
فتمنحني الحياة!.). ‏
في هذا الكتاب هناك ما هو عادي يقتصر على السياسة وحسب، وأيضاً ما ينطوي على شعرية عالية ممتلئة بالصور والمفارقات الصالحة لكل وقت!. ‏
قصائد الخطوة السابعة ‏
رغم تسلل بعض نماذج القصائد من الكتاب الأول إلى هذا الكتاب، إلا أن (قصائد الخطوة السابعة) تبدو مختلفة في لبوسها وشخصيتها والحالة النفسية والشعرية التي يمر بها الشاعر، وهو يضم قصائد كتبت بين عامي 2009 و2010 حيث أراد الشاعر من عبارة الخطوة السابعة أنه دخل فعلاً مرحلة الإعداد لمجلده السابع من أعماله الشعرية الكاملة.. فطبيعة العناوين هنا تشير إلى أن فحوى القصائد والموضوع المتناول مختلف عن الكتاب الأول، رغم أن صيغة الروي وضمير المتحدث هي ذاتها، إلا أن اشتغال الشاعر على الصورة المنتقاة بعناية كبيرة خارج العنوان السياسي، جعلت النص أقرب إلى الشعرية المعهودة خصوصاً بالنسبة لمن ليس على تماس مباشر مع المراحل التاريخية التي أفضت إلى مفارقات الكتاب الأول، فالشاعر هنا يعزف على الجانب الانفعالي في الصورة المدهشة فيما يشبه شحنات هائلة من الفقد والاغتراب والحنين إلى العراق الذي تحول إلى شيء مختلف تماماً ربما أقل ما يشاهده فيه هو الضياع: ‏
(ليس لي «في الحقيقة إن شئت» بيت ‏
ولا بعض بيت ‏
«أحس هنا بالسعادة» ‏
لكنني أتوهم أن هناك، بأقصى الأقاصي، بلاداً ‏
تسمى العراق). ‏
على هذه الوتيرة ينسج الشاعر مفارقاته المختلفة، فيعمد في كثير من النصوص إلى الجمل التفسيرية المعترضة وهو أسلوب يميز سعدي، ويدل على مهارة أسلوبية وبلاغية لا تقل عن رهافته العالية: ‏
(احذر يا منتظر! ‏
القتلُ «وأعني قتلكَ» صعبٌ في السجن، ‏
ولكنك يا منتظر الزيدي، ستبقى هدف المحتلين الأول). ‏
مهارات إضافية ‏
يكرر الشاعر ذلك في معظم القصائد، للدلالة والتأكيد والشرح، وهو إذا يفعل ذلك يبقى ضمن السياق الشعري والانفعالي الكبير للقصيدة الأمر الذي يؤكد موضوع المهارة في الإضافة الواردة دائماً بين قوسين: ‏
(آنَ لا أعرفُ.. آنَ ألبسُ ثانيةً، جزمة الفدائيّ.. «ليست مبالغةً، نحن كنا ببيروت في 1982».. آن أسألُ عني.. آنَ لا أسألُ.. آنَ أفرحُ لو كنتُ أعمى..). ‏
في قصيدة (جنازة) يلجأ سعدي يوسف إلى الهامش فيجعله جزءاً من القصيدة إنما أسفل الصفحة في نهايتها، ليغدو الهامش مع المتن كلاً متكاملاً فيوردها على الشكل التالي بعد أن يصور مشهد الجنازة: ‏
«ملحوظة»: علمتُ الآنَ من طفلة مرحة ترتدي السوادَ، أن جارتي المباشرة، باتّ، هي التي ماتت»!. ‏
في تنويع على الشاعر طلال حيدر وقصيدته الشهيرة (خلي متل القصب كل ما عتق يحن).. يكتب سعدي يوسف: (لفوا الكفافي.. مشوا.. والبحر منهم صار.. محمود درويش باقٍ.. والمدى والدار..).. وفي قصيدته (ما البحرين) يذكر قاسم حداد وحال العراقيين مع ذلك المكان: (ما البحرين؟.. قاسم حداد أم جاسم؟.. مقبرة لعراقيين أتوا من سومر؟ أم: «مرج البحرين» هنا يلتقيان.. وبينهما البرزخ من مرجان وجمان؟). هكذا يطلق سعدي أمواجاً كبيرة من الحنين وذكر الديار عندما يطل كغريب من بلد الاغتراب الذي لم يتحول إلى وطن بالنسبة إليه رغم تقادم السنوات: (هل يعرفُ هذا اليعسوبُ القصة: هل سأعود، كما سيعود الغصن المقطوع إلى الشجرة؟). ‏
قصائد الخطوة السابعة، تنحو باتجاه واحد تقريباً، فهي ليست مشغولة بحساسية عالية ومهارة اشتهر بها سعدي فقط، إنما تشكل بمجملها مآلات لأسئلة وحالات فيها الكثير من الهم الإنساني والوطني والشخصي المبتل مثل سماء لندن التي كتبت فيها هذه القصائد.. وكأن سماء الشاعر تهطل هي الأخرى كلمات تشبه الزخّ الغزير.. عنوان البريد الإلكترونى هذا محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تفعيل الجافا لتتمكن من رؤيته
">وتصيب!. ‏