ثلاث قصائد لقسطنطين كافافي طباعة

سعدي يوسف

إيثاكا

وأنتَ تُزْمِعُ الرحيلَ إلى إيثاكا

فَلْتُصَلِّ من أجْلِ أن يكونَ الدربُ طويلاً

مليئاً بالمغامراتِ والتجاريبِ .

لا تَخَف اليستريغونيّين والسيكلوبات

وبوزايدون الغاضب ،

فأنت لن تراهم

ما دُمتَ متساميَ الفِكْرِ

وما دامت عاطفةٌ نادرةٌ تلمسُ روحَكَ وجسدك

إنك لن تلقى الليستريغونيّين والسيكلوبات وبوزايدون الغاضب

إلا إذا حملتَهم في روحِك

وإلاّ إذا نصبَتْهم روحُكَ أمامك .

تَمَنَّ أن يكونَ دربُك طويلاً

أن تدخلَ في أسحارِ صيفٍ عديدةٍ

وبأيّ امتنانٍ وأيِّ فرحٍ

مرافيءَ تُرى للمرّةِ الأولى ،

وأن تتوقّفَ عند مراكزِ التجارةِ الفينيقيّةِ

فتشتري بضاعةً طيّبةً

أصدافاً ومرجاناًوعنبراً وأبنَوساً

وعطوراً شَهّاءَ شتّى ، قدْرَ ماتستطيع

أن تزورَ مُدناً مصريّةً عديدةً

وأن تَجمعَ معرفةَ العارفين .

لتكنْ إيثاكا ، دوماً ،معك

إنّ بُلوغَكَ إيّاها ، لَهُـوَ مصيرُكَ

لكنْ ، لا تُسَرِّع الرحلةَ ، في الأقلّ

والخيرُ أن تستمرَّ الرحلةُ أعواماً

كي تبْلغَ الجزيرةَ شيخاً،

غنيّاً بما كسبتَه في الدربِ ،

غيرَ متوقِّعٍ من إيثاكا أن تهبَكَ الغِنى .

لقد وهبتْكَ إيثاكا الرِّحلةَ الرائعةَ.

وبدونِها لم يكنْ بإمكانك الرحيل.

وليس لديها ما تهَبُكَ سوى هذا .

 

إنْ وجدتَ إيثاكا فقيرةً ، فهي لم تخدعْكَ

إذْ غدَوتَ من الحكمةِ في هذه التجربةِ

بحيثُ فهمتَ ، فعلاً ،  معنى هذه الإيثاكات

 

بانتظار البرابرة

 

ما الذي ننتظرُ في الساحةِ ، مزدحمينَ ؟

البرابرة سيصِلون اليوم.

ولِمَ مجلسُ الشيوخِ معطَّلٌ ؟

الشيوخُ لا يشترعون القوانين

فلِمَ هم جالسون هناك ، إذاً ؟

لأن البرابرة يصِلونَ اليومَ .

أيَّ قوانينَ سيشترِعُها الشيوخُ الآنَ ؟

عندما يأتي البرابرةُ، سيسنّونَ ، هم ، القوانين .

لِمَ يستيقظُ امبراطورُنا ، مبكراً ، هكذا ؟

ولِمَ يجلس الآنَ ، معتلياً عرشَه ، معتمراً تاجَه

عند البوّابة الكبرى للمدينةِ ؟

لأن البرابرةَ يصِلون اليوم .

الإمبراطورُ ينتظرُ استقبالَ قائدِهم .

والحقُّ أنه تهيّأَ ليوجِّهَ إليه خطبةً

خلَعَ عليه فيها كلَّ الأسماءِ والألقابِ .

لِمَ خرجَ قنصلانا معاً ، والقضاةُ

بأقبائهم الحُمرِ ، وأقبائهم المزركَشة ؟

لِمَ هذه الأساورُ، وكلُّ هذا الحجرِ الكريمِ ؟

كلُّ الخواتمِ ذات الزمرّد المتألق ؟

لِمَ يحملون اليومَ ،صولجاناتِهم الثمينة

ذات الـمَقابضِ الفضّةِ ، والنهاياتِ الذهبِ ؟

لأن البرابرةَ سيَصِلونَ اليومَ

وأشياءُ كهذه تُدهشُ البرابرةَ .

لِمَ لمْ يأتِ الخطباءُ ، المفَوَّهون ، هنا ، كالعادةِ

مُلْقِينَ خُطَبَهم ، قائلينَ ما ينبغي أن يقولوا ؟

لأن البرابرةَ سيكونون ، هنا ، اليومَ

وهم يسأمونَ البلاغةَ والفصاحةَ .

لِمَ هذا التضَيُّقُ المفاجيءُ والإضطرابُ ؟

لمَ غدتْ عابسةً وجوهُ القومِ ؟

لِمَ تخلو الشوارعُ والساحاتُ سريعاً ؟

والكلُّ يعودُ إلى دارهِ ، غارقاً في الفكرِ ؟

لأن الليلَ قد هبطَ ، ولم يأتِ البرابرةُ .

ولأنّ أُناساً قدِموا من الحدودِ

وقالوا ليس ثمَتَ برابرةٌ .

والآنَ ... ماذا نفعلُ ، بدونِ برابرةٍ ؟

لقد كان هؤلاء نوعاً من حَلٍّ .

 

المدينة

 

قلْتَ : سأمضي إلى أرضٍ أخرى

أمضي إلى بحرٍ آخر

لأجدَ مدينةً أخرى خيراً من هذه ،

حيثُ كلُّ ما فعلتُهُ كان مُداناً مُقَدَّراً

وحيثُ قلبي دفينٌ ، مثل جسم ميّتٍ. إلامَ أظلُّ في هذه العتمةِ

حيثُ من أيّ وجهٍ جئتُ

لا أرى سوى خرائبِ حياتي السُّودِ

حيثُ قضَيتُ سنينَ وسنينَ

أضعتُها  ، وخرّبتُها تماماً ؟

 

لن تجدَ أرَضِينَ جديدةً ، ولا بحاراً أخرى

فالمدينةُ ستتبعُكَ

وستُطَوِّفُ في الطُّرُقاتِ ذاتِها ،

وتَهرَمُ في الأحياءِ نفسِها

وتشيبُ ، أخيراً ، في البيوتِ نفسِها.

ستؤدِّي بكَ السُّبُلُ ، دائماً ، إلى هذه المدينةِ

فلا تأْمُلَنَّ في فرارٍ

إذْ ليس لك من سفينةٍ

و لا مِن طريقٍ .

وكما خرّبْتَ حياتَكَ هنا

في هذه الزاويةِ من العالَم

فهي خرابٌ أنّى ذهبْتَ .

اخر تحديث الخميس, 15 غشت/آب 2019 09:30