( 1 ) شجرٌ صافٍ ، وســماءٌ خضراءْ وبرائحةٍ من مومباسا يبتلُّ المــاءْ وبرائحةٍ من حنّاءِ البحرِ عرفناكِ وسمّـيناكِ . مدينتَـنا ! أيامَ أتيناكِ تعلّـمْنا كيف يدورُ الفِـطْـرُ خبيئاً بين الظلِّ وبين النخلِ ، تعلّـمْـنا كيف نؤذِّنُ في العيدِ وكيف نُلاعبُ أسماكاً هادئةً كيف نراوغُ حيّاتِ الماء … وتعلّمـنا أن نجلسَ أحياناً والغيمَ …
كباراً كنّـا ؟ وكباراً كانت قطراتُ المطرِ ؟ اسـتَـرْوَحْـنا زهرَ النوّامِ عرفنا كيف تكونُ توَيجاتُ الزهرةِ كاللحمِ . بعيداً في أنهارٍ غامضةِ الأصواتِ نخوضُ . ومَن أنبتَ هذي العنبةَ عند مُـسنّـاةِ الجامعِ ؟ مكتبةُ المخطوطاتِ الأولى في جيبِ الدشداشةِ . سافرتُ بعيداً حتى بابِ سـليمانَ أميري في قلعتهِ النهريةِ كان سجيناً. حينَ تظاهَـرْنا – طلاّبَ المحموديةِ – قالوا ستطاردنا الشرطةُ . دَخَـنّـا في البستان المهجور سجائرَنا الأولى ، وبكَـينا من خوفٍ . رائحةُ الأشَـناتِ السمكُ المـيّتُ في القيظِ … قناطرُ تحملُـنا وقناطر تركلنا وقناطر تغسلنا ، شُـرُفاتُ أميراتِ الهندِ بعيدةْ والبستانُ بعيدٌ بابُ سليمانَ بعيدٌ والبيتُ بعيدٌ … والشمسُ التـفّـتْ بالسعَـفِ اللدْنِ ونامت. .................. .................. رِجْـلُ المعزى رجْـلُ المسحاةِ ................... ونسمعُ في العتْـمةِ خطوَ السّـعلاةِ ... وفي الدمع انطفأتْ نارُ سجائرنا الأولى . يا حلو ، يا مصطفى يا قُـرّةً للعينْ نومَ الهنا ... مصطفى يا أشهلَ العينينْ غَـمِّـضْ على خيلنا والبصرةِ الصّـوبَـين تحميك بعد النبي والسادةِ الألفَـين يحميكَ يا مهجتي مختارُ " كوتِ الزين " ( 2 ) وردٌ أزرقْ وسمـاءٌ حمراءْ وبأسنانِ الكوسجِ يبتلُّ الماءْ لا بأسَ ، سأفتحُ جرحاً في كفِّـي لأخبِّـيءَ نجماً ثم أذرُّ دقيقَ الليفِ عليها وأقولُ سلاماً يا حمّــالي سفنِ العالمِ يا عمالَ قطاراتٍ لم تمنحني تذكرةً أو ذاكرةً … في الليلِ نجوبُ درابينَ الصيفِ ونفتحُ في جدرانِ رطوبتهِ ثقباً نتنفسُ منهُ ، ويا أوحالَ صرائفنا ، يا مطرَ الأمطار فساتينٌ تَـزَّيَّـنُ بالأطمار وتكتمُ نجماً … وعباءاتٌ تعتمِـرُ البصرةَ كوخاً كوخاً ومناشيرٌ تخْـفُقُ تحتَ سماءٍ حمراء … وبين القُـرنةِ والفاوِ: بساتينُ النخلِ ، وأزهارُ الملحِ سلاماً للطالعِ للطّـلْـعِ لكل امرأةٍ تحملُ في سُـرّتها نجماً قطبيّـاً وتُـطَـوِّفُ بين القرنةِ والفاو … مدينتَـنا ! سبعُ عرائسِ ماءٍ جئنَ إلينا في ليلٍ شتويٍّ ، قُـلْـنَ لنا : أبصرْنا سربَ كواسجَ يأتي من جهةِ الغربِ ، فأبحَـرْنا نلقاهُ … لكنْ بزوارقَ من برديٍّ من ورقٍ من سعفٍ هشٍّ أبحرْنا … لكنّ البلطةَ كانت تحْـتَـزُّ زوارقَـنا كالماءِ ، الماءُ سـماءٌ حمراءُ دمٌ يتدفّـقُ مطلولاً بين القرنةِ والفاوِ ، وهذا الكوسجُ يبحثُ عن نجمٍ قطبيِّ يأكلهُ . انفتحتْ بوّاباتُ الغربِ … مدينتَـنا ! أيَّ طبولٍ نسمعُ في الليلِ الهامدِ … أيُّ حكاياتٍ يسمعها حتى النخلُ فيذوي منكفيءَ الجذعِ ، وأيُّ خريفٍ سيطولُ إلى آخرةِ الدنيا … يا حلو ، يامصطفى يا زينة الشبّـانْ مرّتْ غيومُ العِـدا مرتْ على " حمدان" يا حلو ، يا مصطفى هانَ الذي ما هانْ بعد الندى والندامى ضعضعوا البنيانْ يا حلو ، يا مصطفى يا سدرة البستانْ يا ليت شمس الضحى حنّتْ على الولهانْ (3 ) تابوتٌ أخضرْ وسماءٌ بيضاءْ وبِـطَـلْعِ النخلةِ يبتلُّ الماءْ في الضفةِ الأخرى : عـمِّـي. في شاطئنا : كان أبي . في شط العربِ: الزورقُ مختبيءٌ بين البرديّ . وحيدٌ . لم يبقَ من النخلِ سوى أعجازٍ خاويةٍ . إن سماءً بيضاءَ سماءً كانت خضراءَ تمدُّ يديها نحو سماءٍ ثالثةٍ : " أنا عريانةْ أنا عريانةْ ذهبتْ بالنخلِ مدافعُـهمْ ذهبتْ بالأهلِ مدافنُـهم أنا عريانةْ " والبصرةُ تدخلُ تحتَ شوارعها تدخلُ تحت الماءِ أُجاجاً تدخل تحت الكتبِ الموصوفةِ تدخلُ في الروحِ ولا تخرجُ إلاّ والروحَ … مدينتنا ! مَـن ضيّـعَ عاداتِ النورسِ ؟ من جاءَ بغربانِ الجثثِ الأولى؟ من جاءكِ بالأكياسِ الرمليةِ يا فيروزَ الشطآنْ ؟ من عضَّ سِـباخَـكِ بالقتلى ؟ نهرٌ عبّـاسيٌّ يحفر مجراه قروناً هذا النهرُ العبّـاسيُّ يتابع مجراه من أسباخِ الزَّنجِ يتابعُ مجراه ونحن ، حلمْـنا ، يوماً ، أن نوقفَ بالأيدي مجراه … مدينتَـنا ! سنظلُّ – وإنْ شِـبْـنا – أطفالَـكِ نحملُ طلْـعَـكِ في جيبِ الدشداشةِ نشربُـهُ في حشرجةِ الماء … مدينتَـنا ! ما ضِـعتِ وما ضعنا ، لكنْ ، ضَـيَّـعَـنا الأعداءْ … يا حلو ، يا مصطفى يا زينة البصرةْ نوم الهنا ، مصطفى … ما أضيقَ الحفرةْ !
|