عشرُ قصائد طباعة

سعدي يوسف

(1)

محنة

" ليس مِن أملٍ ... "

أنتَ كنتَ تردِّدُها ، منذ عشرين عاماً وأكثرَ .

لكنني كنتُ أسمعُها منكَ ، مبتسماً

(كان بين يدَينا نبيذٌ من السّفْحِ )

واليومَ

آنَ الغُيومُ الرصاصُ ، الغيومُ الرمادُ ، تُقِضُّ سماواتِنا ،

وتُقَضْقِضُ أنفاسَنا ...

اليومَ ، أسألُ عنكَ ،

وأبحثُ في كلِ مُنتبَذٍ عن كراسيّ مقهى ،

وعن حانةٍ رُبّما كنتَ تنهلُ فيها نبيذاً من السفحِ

أسمعُ صوتكَ يهمسُ لي

مثلَ ما كان يهمسُ لي ، قبل عشرين عاماً وأكثرَ ، أسمعُها :

" ليس من أملٍ ... "

أنا ما زلْتُ مبتسِماً يا صديقي الذي يتذوّقُ أغلى نبيذٍ

ويفرَحُ حين يُغَنّي قصيدتَهُ :

" ليس من أملٍ ... "

ليراني أُشاركُهُ ، آنَ أكرعُ  كأسَ نبيذِ السفوحِ

سفوحِ فرنسا الجنوبيّةِ

النهر

والبحر

والياسمين

وكلّ الخزامى ...

 

لندن 31.10.2016

 

(2)

محطة الشمال

La Gare du Nord

قبلَ أن نتحمّلَ عبءَ المحطةِ

بين الحقائبِ والسائرين إلى حتفِهِم

دونَ أن يَعْلَموا

كنتُ أعرفُ أنّا ( وأعني أنا ، والتي كنتُ أحببْتُها )

سائرانِ إلى سِكّةٍ لن تصِلْ .

كنتُ أعرفُ أن محطة باريسَ

سوف تكونُ الأخيرةَ .

لن نعرفَ الفجرَ ثانيةً

بينما نحن معتنقانِ على قهوةٍ بالحليبِ وخُبْزِ الأهِلّةِ ...

ذاكَ المساءَ الأخيرَ

( وأعني الذي قبل صبحِ المحطّةِ )

ألقَيْتُ نفسي ، ثقيلاً  ، كلَوْحٍ ، على متْنِ ذاكَ الفراشِ ، بفُندقِنا

ثم نمتُ ...

لم أكنْ أتصوّرُ أنّ جِيزيلَ كانت تريدُ ...

ولكنّ جيزيلَ تعرفُ كم كنتُ أضعفَ من نملةٍ !

أنّ جيزيلَ  تعرفُ كم كانَ أرهقَني الحفْلُ :

تلك القراءةُ

ذاك الأسى

وإلى آخرِ الحفْلِ ...

................

.................

.................

والآنَ

مِن بَعدِ سبْعٍ

سأذكرُ أنّا افترقْنا ، بلا سببٍ ،  في المحطّةِ

 

لندن 19.11.2010

 

(3)

ليس من ذهبٍ في الخريف

ليس من ذهبٍ في الخريف الذي أشهدُ اليومَ

ما اسّاقَطَ الورقُ البَضُّ

ما احمَرَّ

ما اصْفَرَّ

حتّى البُحَيرةُ لا تتبدّى سوى لحظةٍ إذْ يهبُّ النسيمُ ...

إذاً

ايُّ معنىً لهذا الخريفِ الذي لا يُرى ؟

أهو في رفّةِ العَينِ ؟

في خفقةِ النبْضِ ؟

أمْ هوَ في لِـمّةٍ أثقلَتْها الثلوج ؟

 

لندن 05.09.2019

 

(4)

كُنْ قويّاً

سقطتْ في الضبابِ البعيدِ ،

هنالكَ عند القناةِ التي لا تكادُ تَبِيْنُ

صنوبرةٌ ...

كُنْ قَويّا .

*

تناءى معارفُكَ الأقربونَ ، بلا سببٍ

كُنْ قويّا.

*

وأنكركَ الأهلُ

لا النحلُ و النملُ

ياسيّدي  ...

كُنْ قَويّا .

*

وأنكركَ  الرِّفقةُ الأقدمونَ

الذين  تخلّوا عن الإسمِ

والمنجلِ الشّهْمِ

والمِطْرقةْ ...

فلْتَكُنْ يا ابنَ أُمِّي قَويّا .

*

وإنْ غامت الواصليّةُ

والبصرةُ

النخلُ

والأهلُ

والجدولُ الـمـُـرتبي سمَكاً

كُنْ قويّا !

............

............

............

غير أنكَ ، لو أنكرتْكَ التي كنتَ أحببْتَها

في أعالي الشّآمِ

وأشجارِها  ...

لن تكونَ القَويّا !

 

لندن  23.01.2019

 

(5)

فى بيزنطة

هل أكونُ، المسيحيَّ، وحدي

فى حارةِ الوثنيّين ؟

منذ اثنتى عشرةَ امرأةً كنتُ عاشرتُهُنّ

لم يقُلْ لى : سلاماً  أحدْ !

لم أُصادِفْ تحيّةَ عيدٍ

ولم يبتسمْ لى أحدْ

هل أكونُ، المسيحيَّ، وحدي

فى حارةِ الوثنيّينَ ؟

رُبّتَما ...

غيرَ أنى رثَيتُ لهم

بل ذرفتُ دموعاً لهم

للضعافِ

ومَنْ، هم، مَدى الدهرِ، مستضعَفون

ذرفتُ دموعاً لهم

ذرفتُ دموعاً لهنّ

النساءِ اللواتى يبِتْنَ بغيرِ حساءٍ

وللواردينَ إلى ساحة السوقِ، سعياً، حُفاةً، بلا موردٍ

للصبايا البغايا

وللسائرين إلى حتْفِهم فى الظلام

***

لن يجيءَ أميرُ السلام

ليُنقِذَ بيزنطةَ ...

الحارةُ الوثنيّةُ، راضيةٌ  بالظلام .

 

لندن 10.12.2015

 

(6)

شموعٌ

في سُلّمي

لي شموعي السبعُ

أوقِدُها يوماً ،

فتُوقِدُني دوماً ...

كأني بنورِ الشمع أشتعلُ .

كأنّما الشمسُ ، وهي الشمسُ

قد خَفِيَتْ

كسيفةً ...

وكأنّ الليلَ يحتفلُ

بي

وبالسُّلّمِ ...

الألوانُ ، والأملُ

وسِدرةُ الـمُنتَهى  ،

إنّ الدُّجى ثَمِلُ ...

 

لندن 03.02.2019

 

(7)

شارعُ الـمَــــعْبـَد

Rue du Temple

ليس بعيداً عن كُبرى الساحات بباريسَ

( وأعني الجمهوريّةَ )

أعني :

Place de la Republique

هذا الشارعُ صارَ مَطافي إذْ ضاقتْ بي سُبُلي

وتمَنّعَت الدنيا ...

( طاردَني في صيفِ بلغرادَ ، شيوعيٌّ من بلَدي

كان يبيع شيوعيّينَ عراقيّين ،

رؤوساً

وتقاريرَ ،

ويقبضُ مالاً من بغدادَ

فلوساً

ودنانيرَ ) ...

وهاأنذا

في شقّة داود َ :

الشارعُ بيتي

والجيرانُ يهود ...

*

لكنّ نساءً  كُنَّ يجئنَ إلى الشقّةِ

مُرتبِكاتٍ ،

لينَمْنَ بها  ، ومعي :

ويُفِقْنَ صباحاً

رَطِباتٍ

ممتلئاتٍ  ...

*

كم كانت شقّةُ داودَ ، العالَمَ !

كان الشارعُ بيتي

والجيرانُ يهود !

 

15.12.2018

 

(8)

حَيرانُ أنا

ليَ عينانِ ، حقّاً

ولكنني لا أرى …

أنا أُبصِرُ

لكنني أتحرّى البصيرةَ .

أمشي

ولكنني لستُ أعرفُ دربي .

أُتمتمُ

لكنني لا أقولُ .

………..

………..

………..

الغزالةُ

تعرفُ ما حيّرَتْهُ العقول …

 

لندن 06.09.2019

 

(9)

حيُّ سانت أنطوانSaint Antoine

هو ...

ما يُسَمّى باسمِ قدّيسٍ

وأعني :

Saint Antoine

يقابلُ الباستيل

( أعني ههنا ، بوّابةَ الباستيل )

لكنّ السبيلَ إليه مختلفٌ

( وأعني  أننا في حومة الناسِ  الأُلى اقتحموا

وإنْ لم يفتحوا بوّابةَ الباستيل )

في تلك الدروب أدورُ ...

أبحثُ عن مكانٍ غامضٍ

كانت مُعَذِّبَتي هناك ...

تركتُها ، مستنفَراً ، في البارِ

قالتْ لي : وداعاً  ! لن تراني ...

سوف أسكنُ غرفةً في غابة البوبورغ !

قلتُ لها :

ولكني سأبحثُ عنكِ !

سوف أدورُ في تلك الأزقّةِ

سوف ألقاكِ !

اكْذِبي ..

لكنْ إلى أن تعرفي أني أحبُّكِ

أنتِ ...

ماري آنْ !

 

لندن 29.11.2018

 

(10)

حنين !

وتدخلُ أنتَ

بُوليفارَ هِنْري الرابعِ المكتظَّ بالعرباتِ

تقطعُهُ

وتعّبُرُ جسرَ مِيرابو

لتدخلَ معهداً للعالَمِ العربيّ

يسْكنُ ، بَعْدُ ، في غرُفاتِهِ الألفَينِ سوريّونَ

منذُ سنينَ غابرةٍ …

ويسكنهُ فرنسيّونَ لم يتعلّموا إلا رطانةَ أهلِ باريسَ ؛

الصباحُ ، كعهدِهِ ، نضِرٌ

وأنتَ هبطتَ من عِلِّيّةٍ مهجورةٍ ، لتكونَ بين الناسِ

في هذا الصباحِ …

ظننتَ أنَّ الأمرَ أيسرُ من تنَفُّسِكَ !

انتبِهْ …

إنّ الصباحَ هنا بعيدٌ ،

كيف تَبْلُغُهُ ، وليس لديكَ ما يكفي لقهوتِهِ ؟

وليس لديكَ ما يكفي لتدفعَ أُجرةَ المترو ؟

لقد كانت فتاتُكَ ترتدي سروالَها الجِينْزَ العجيبَ …

وأنتَ ماذا ترتدي ؟

أسمالُكَ اللائي دخلتَ بها إلى باريسَ ما زالتْ كما كانت

مهلهَلةً  ، وأكثرَ …

دَعْ فتاتَكَ

سيِّدي…

وتَعَجّل الـمَـسْعى :

مُعامَلةَ الإقامةِ ، فاللجوء !

 

لندن 22.11.2018

اخر تحديث الثلاثاء, 15 شتنبر/أيلول 2020 20:16