الشاعرُ العراقيّ الوحيـــد طباعة

سعدي يوسف
سركون بولص ( 1944-2007 ) ، يرحل في برلين...
في مستشفىً ببرلين .
في تمّوز ، هذا العام ، وفي الجنوب الفرنسيّ ، في مهرجان لودَيف تحديداً ، ألتقي سركون لقاءً  غريباً .
كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف ، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام ، لكني لم  أجده في الأيام الأولى . انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل ، بلا جدوى . أنا أعرفُ أنه مريضٌ ، وأنه بحاجةٍ إلى انتباه واهتمامٍ ... لم " أعثرْ " عليه في هذه البلدة الصغيرة

التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً  حتى لنفسها ...
سألتُ عنه أصدقاء ، فلم يجيبوا .
عجباً !
وفي صباحٍ باكرٍ . عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ  . رأيتُ سركون جالساً  على الرصيف . كنتُ مع أندريا . قبّــلتُه : أين أنت ؟
كان شاحباً ، مرتجفاً من الوهَن ، محتفظاً بدعابته  : في الساعة الثالثة فجراً طردتْني  مالكةُ نُزْلِ الورود.
La Roseraie
 كانت تصرخ مرتعبةً  حين وجدتْني متمدداً على أريكةٍ في البهو . سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان . هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما . لا مجال لي للعودة إلى الغابة . قلتُ  أنام قليلاً هنا حتى انبلاج الصبح . لكنّ السيدة جاءت ...
سألتُه  : عن أيّ غابةٍ تتحدّث ؟ ( ظننتُه يهذي ) . قال بطريقته : إي ... الغابة التي اختاروا مسكني فيها . ليس في المسكن فراشٌ مجهّز . المكان مقطوع . هناك سيارة تصل إلى المكان مرةً واحدةً في اليوم !
أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها .
قال إنه ليس في المدينة !
جلسنا معه على الرصيف .
فجأةً لمحتُ إحدى المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها .
ابتدرتُها  بالفرنسية : Il va mourir dans la rue …
سوف يموت في الشارع !
عواهرُ المهرجانات ، يستمتعن ، كالعادة ، في غرفاتٍ عالية ...
*
قلقي عليه ظلّ يلازمني .
حقاً  ، اشتركتُ معه ، في جلسة حديثٍ مشتركة ، أمام الجمهور ،  عن العراق  ، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته ، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال ، على خلاف معظم  المثقفين العراقيين . أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها  أقرب إلى العافية ، لم  تخفِّفْ من قلقي عليه .
رأيتُه آخر مرةٍ ، في منزل الوردِ التعيس ، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما . قالا إنه سوف ينزل هنا ( المهرجان أوشك ينتهي ) . ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ
ثم أخذاه فجأةً إلى خارج منزل الوردِ . سألتُهما : أين تمضيان به ؟ إنه مريض .
أجابا : هناك  إجراءٌ  رسميّ ( توقيع  أو ما إلى ذلك ) ينبغي أن يستكمَل !
قلتُ لهما : إنه لا يستطيع السير . دعاه يستريح . نحن نعتني به .
قالا : لدينا سيارة !
انطلقت السيارةُ به ، مبتعدةً عن منزل الورد .
في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلى غير رجعةٍ .
*
قلقي عليه ظلّ يلازمني .
اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين . ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون .
سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي .
ثم اتصلتُ ثانيةً . قلت له إن سركون في المستشفى .
طمْأنني فاضل عليه .
لكني لم أطمَئِنّ .
*
هذا الصباح ، ذهب خالد المعالي ، يعوده ،  في المستشفى البرليني ، ليجده ميتاً ...
( التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن ... )
*
ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد ...
قد يبدو التعبيرُ ملتبساً .
لكن الأمر ، واضحٌ  ، لديّ .
سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق .
بدأ في مطلع الستينيات ،  مجهّزاً ، مكتمل الأداة ، مفاجِئاً وحكيماً في آن .
لم يكن لديه ذلك النزق ( الضروريّ أحياناً ) لشاعرٍ شابٍّ  يقتحم الساحة .
سركون بولص لم يقتحم الساحة . لقد دخلَها  هادئاً ، نفيساً ، محبّاً ، غير متنافسٍ .
كان يسدي النصيحةَ ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة ، مقابل الخصومةِ ، والمشتبَكِ ، والادّعاء .
لم يكن ليباهي بثقافته ، وإن حُقّتْ له المباهاة .
هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ  .
سركون بولص يكره الإدّعاء !
*
وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ ...
هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ .
لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة  حين تَرْفعُ ...
لكنهم  هجروها حين اقتضت الخطر !
وقف ضدّ الاحتلال ، ليس باعتباره سياسياً ، إذ لم يكن سركون بولص ، البتةَ ، سياسياً .
وقفَ ضد الاحتلال ، لأن الشاعر  ، بالضرورة ، يقف ضد الاحتلال .
سُــمُوُّ موقفِه
هو من سُــمُوّ  قصيدته .
*
لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ ، شاعراً  ألَمَّ  بتعقيدات قصيدةِ النثرِ ، ومسؤولياتها  ، مثل ما ألَمَّ سركون بولص . مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً .  إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلى النصّ  الـمُنْبَتّ ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ :
رامبو  مقتلَعاً من متاريس الكومونة ...
مدخلُهُ  ، المدّ الشعريّ الأميركيّ . مجدُ النصّ المتّصل .
أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة ، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة .
قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ ،  لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى ...
طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا ...
*
قصيدتُه عن  " السيد الأميركيّ " نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ !
*
سركون بولص ...
شاعر العراق الوحيد !
 
                                               لندن  22.10.2007