البحث عن خان أيوب طباعة

ضياء خضير

ظلت قصيدة سعدي (البحث عن خان أيوب بالميدان من دمشق) تحتل زاوية ما في رأسي منذ قرأتها لأول مرة عام 1972 في مجلة الآداب اللبنانية. فهي واحدة من القصائد المتميزة في شعر سعدي، وتشكل علامة من علامات المرحلة (الثورية) التي رافقت صعود المقاومة الفلسطينية التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967، التي كان الشيوعي الأخير

يتشوف إليها قبل أن ينتظم في صفوفها مثل كثيرين من المثقفين والشعراء من اليسار العراقي والعربي في حينها. كما أن القصيدة تعكس، على نحو ما، جانبًا من الوضع السياسي الداخلي العراقي الذي كان يشهد محاولات مترددة لتشكيل الجبهة الوطنية بين البعثيين والشيوعيين، من ناحية، والخلاف العراقي السوري حول الزعامة العقائدية والسياسية، من ناحية ثانية.

وهي أمور لا يمكن القول بوجودها إلا كأصداء بعيدة داخل هذه القصيدة المركبة في بنائها النصي وإشاراتها الدلالية المختلفة.

غير أن أهمية القصيدة لم تأتِ فقط من هذا الجانب الخاص بتركيبها أو محتواها الدلالي ذي الطبيعة الثورية البعيدة عن المباشرة والشعارية، وإنما أيضا لأنها قد ثبّتت المزايا الأساسية في شعر سعدي يوسف، وأوجدت هذا المنحى الشعري الجديد الخارج على عمود القصيدة وتراث الشعرية العربية مع تمسكه بروحهما وبعض لوازمهما الشكلية والدلالية على نحو نشعر معه أننا إزاء شاعر عربي قديم دخل المدينة الغريبة كما دخلها شاعرنا أول مرة، وأخذ يبحث عن مأوى ويسأل عن مكان مخصوص يبيت فيه قبل أن يضطر إلى أن يلتف (ببعضه) لينام، لأن أحدًا لم يدلَّه على مقصوده، معيدًا إلينا بهذا نفس ذلك الإحساس بالاغتراب والمعاناة التي كان يشعر بهما زميله الشاعر القديم، حيث الشعور العام بهوان المصير الفردي وعدم أهميته، ومرارة الانقسام السياسي والفكري العام الذي يحصل آنئذ، ويكون الإنسان الفرد ضحيته، تماما كما كان يحصل في الماضي القريب والبعيد. وهي بهذا ليست قصيدة قناع، مع أنها ليست بعيدة عنها في عرضها لتجربة شخصية تتعالق أو تتشابه مع تجارب قناع أخرى واقعية أو متخيلة.

وجنودُ الخليفة الذين يرون الشاعر شخصًا غريبًا لأنه (تحدث في السوق عما وراء النهر)، هم نفس جنود الحاكم الجديد الذي حرم الشاعر من الإقامة في بلده، وحاصره بالعيون والعسس وهو يبحث عن مكان ينام فيه وسط تلك الوجوه التي "ترتدي عريها"، وأشجار المدينة التي تحاول النمو والاستطالة وتكرر الفعل ولكنها تكبو في كل مرة، وكأن هناك من يمنعها من هذه الاستطالة، ويعطل الحياة في الطبيعة، كما عطّلها في الحياة نفسها. ومع أن الشاعر يعتبر سيرته "غريبةً في ما اتّصل بالمغادَرات، أعني أنها ذات مغادراتٍ متّصلة. هذا يعني في ما يعني أن المغادَرة هي الأصل، والإقامة هي المؤقّت” ( كما يقول في أحد كتبه، فإن ما يذكره من تفاصيل خاصة بهذه (المغادرة) وما يتصل بها من بحث عن مأوى ومكان للإقامة يعطينا فكرة عن نوع هذه (المغادرات)، التي كاد فيها الشاعر أن (ينتهي) خلال سفره بعد أن حال (رمل الجزيرة) بينه وبين بلده العراق.

وقميص (الفتن الداخلية)، الذي يذكرنا بقميص عثمان الذي علقه معاوية على بعض أعمدة الجامع الأموي العتيقة، هو نفس القميص - المادي والمجازي - الذي ما زال شاعرنا المعاصر يرتديه ويضطر لتقسيمه بين (اثنتين) وهو ينتقل متخفيا من بغداد العراق إلى دمشق الشام، مع كل ما بين الأرضين والقطرين من انقسامات واختلافات لا علاقة له بها، ولكنه، كمواطن بسيط، يجد نفسه مضطرا لدفع ثمنها. علما بأن بعض ملامح التاريخ القديم الذي نتعرف عليه في هذه القصيدة هو غير التاريخ العلني والسري الذي كان يتخلق وتجري صياغته في الواقع الذي كان الشاعر يتحرك فيه، ويعاني من ويلاته، سواء من ناحية فتنه الداخلية، أم بمزاياه التي كانت الأرض فيها تدور على نفسها ليأتي، بدلًا عن ذلك، "زمن العاشقين الذين إذا دارت الأرض ماتوا، أو اجترحوا الرفض كي يوقفوها". وأيضا هو الزمن الذي

 

" كانت البندقية فيه التفرد والحل،

إنّا على رقعة لا تهاجر فيها الخيول.

***

مضى زمن كانت المدن العربية فيه ثغورا

لقد جاءنا زمن المدن المصرفية."

 

وهكذا، فهذه السياحة على رقعة الأرض العربية الممتدة، زمنيًا، داخل القصيدة بين ذلك الأمس البعيد وهذا اليوم القريب، وجغرافيًا بين العراق وسوريا، ومعهما، أو بينهما، فلسطين الانتفاضة والمقاومة، هي الموضوع والهمّ الذي كان يعمّر رأس هذا الشاعر أو راويه الغريب الذي يبحث عن تلك المحطة الرمزية - خان أيوب في ميدان دمشق الشام من أجل أن يجد إخوته الذين يصنعون القنابل داخله، وليس فقط ليقيم فيه. فقد تبيّن أن هذا الخان الذي تفتح واهتدى إليه الشاعر فدخل دون أن يدله عليه أحد هو المكان الذي أبصر هم فيه

 

" يصنعون القنابل ... إنهم إخوتي، يرسمون دمشق على هضبة الله والاحتلال، إنهم إخوتي، يرسمون على النهر أعمدة الجامع الأموي جسورا

جسورا

جسورا

جسورا

جسورا

وقد ينسفون الجسور إلى الناصرة."

 

وهكذا، فهذه القصيدة المجردة من الزوائد، ، والملامسة لقلب مشكلاتنا وهمومنا العربية، والقادرة بلغتها الرائقة ورؤيتها الثورية الشاملة، على مزج العام بالخاص والحاضر بالماضي، قد نجحت في أن تستقطب انتباه كثير من القراء وبعض الشعراء العرب الذين حاولوا تقليدها أو كتابة نوع من المعارضات أو المضاهاة الناظرة إلى طريقتها الفريدة في مقاربة موضوعها القائم على الإشارة والإيماء والرمز ووسائل البلاغة المراوغة التي تحاكي بطريقتها الخاصة لغة القصيدة القديمة وتقطع معها في الوقت نفسه، عن طريق التكرار الغريب لبعض الكلمات والعبارات، والتلاعب بالجناس ( يقول لي السوق شيئا، يقول لي الشوق شيئا)، ( أعلن في الصحف المشتراة، والصحف المشتهاة)، ومزج المادي بالمجرد في تصويره المتكرر لدمشق وبحر أزقتها المحيط، ومنائرها التي كانت خزفا مغربيًا، وأولئك الذين يريدونها أمرأة تتزاوج فيها الشهادة والماء)..إلخ

ومن بين هؤلاء الذي نظروا إلى القصيدة وكتبوا ما يشبه المعارضة لها أو لبعض أجزائها، الشاعران سامي مهدي، وحميد سعيد.

ففي حمى بحث شعرائنا العرب عن الماضي والتوقف عند نماذج مجسدة له إنسانية أو عينية مادية تجسده ، يجري الحديث عن هذا الحلم الضائع أو المضيّع في الحاضر المعيش. والصحراء التي يبحث فيها الشاعر سامي مهدي عن "وجه بدوي يلهث في عري الصحراء" خارج المدينة أو عن (خان مرجان) الذي "سُدّ الطريق إليه" داخلها، نرى هذا المسعى الباحث عن تحقق الحلم الوطني والقومي الذي تحول مع الوقت إلى ما يشبه الكابوس.

وهذه القصيدة الأخيرة ( خان مرجان) تذكرنا، كما ذكرت في كتابي عن (سامي مهدي ناقدا)، بقصيدة سعدي يوسف هذه (البحث عن خان أيوب):

 

"تساءلت حين دخلت المدينة عن خان أيوب

ما دلّني أحد

فالتففت ببعضي ونمت، لقد كان وجه المدينة أزرق

أشجارها تستطيل وتكبو، ولكنها تستطيل لتكبو

وثالثة تستطيل.." (سعدي يوسف، العمال الشعرية 1952 – 1977، بيروت 1999، ص 215)

 

ولئن كانت قصيدة سامي مهدي السابقة قد وردت في سياق آخر يجعل علاقتها بقصيدة سعدي هذه ضعيفة واهية، فإن هذا المقطع الذي يرد في قصيدة للشاعر حميد سعيد المعنونة (حقل مروان) يبدو ذا علاقة أكيدة بقصيدة سعدي على نحو يجعل منها (قصيدة حميد) نوعا من الارتداد اللفظي والدلالي الذي يحملنا على القول بوجود نوع مما يمكن أن نسميه (المعارضة الأيديولوجية) التي تبشر بالأمل والثورة في قصيدة سعدي، فيما تغلق قصيدة حميد سعيد الأملَ فيهما هناك،

يقول حميد:

 

"لاح لي حقل مروان حين اقتربت من الشام

قلتُ..

أحاول ألّا أثير شجون الشجر

واتكأت على غصن زيتونة فانكسر

ثم حاولت أن أتفادى المدينة"

 

فأمام دمشق الشام تبدأ القصيدتان من نقطة بحث واحدة تؤلف، كما نرى، مركز جذب دلالي يتداخل فيه حاضر المدينة وماضيها. وهي خان أيوب في قصيدة سعدي يوسف، و(حقل مروان) بالنسبة لحميد سعيد. وإذ يبصر الراوي في قصيدة سعدي بين حديقة ذلك الخان ودهاليزه إخوانه يصنعون القنابل، ويرسمون على النهر أعمدة وجسورا قد ينسفونها وهم في طريقهم إلى الناصرة، محاكين بذلك فعل الثورة والمقاومة ومستعدين لهما، نجد أن (منازل مروان) التي يراها حميد سعيد من سجن مروان (ملغومة بالخراب، وتاريخ مروان يكتبه قاتلوه)، تماما مثل خان مرجان الذي سد الطريق إليه في قصيدة سامي مهدي داخل المدينة.

ولعل المفارقة التي ترسمها هذه المعارضة التي يقوم بها شاعران بعثيان في تتبعهما، كل على طريقته، لخطى قصيدة شاعر شيوعي توضح الكيفية التي تتراجع فيها سلطة المواقع الشخصية أمام سلطة الإبداع، حتى إذا بقيت بعض آثار الأيديولوجيا ورائحتها المميزة لدى الشعراء الثلاثة، عالقة بأذيال كل قصيدة من قصائد الشعراء الثلاثة .. فسعدي يوسف الذي يراه الخليفة (شخصا غريبا) لأنه تحدث في السوق عما وراء النهر (دون أن يفصح لنا عن نوع هذا الحديث وماهيته، مع أننا نعرف أن البلاد التي فتحها المسلمون في القرن الحادي عشر وتقع بين نهري سيحون وجيحون وسميت من قبلهم بهذا الاسم، كانت آنئذٍ ضمن المنظومة السوفيتية الشيوعية التي يمكن أن يكون هذا الحديث مبشرًا بفكرها وناطقًا باسمها)، قبل أن يجد الحلَّ بالارتباط بإخوته من شباب المقاومة الفلسطينية الذين يصنعون القنابل في خان أيوب تمهيدا لنسف الجسور في طريقهم إلى الناصرة تطبيقا لهذا للفكر الثوري، لا يختلف عن سامي مهدي الباحث عن ذلك البدوي في (عري الصحراء) العربية؛ وعن (خان مرجان) الذي سد الطريق إليه داخل المدينة. وهو لا يختلف، كذلك، عن الشاعر حميد سعيد الذي يرى منازل (مروان) [الرمز - المؤسس للفكر القومي في دمشق الشام] ملغومة بالخراب و(حقل مروان) الذي لاح لحميد سعيد عند اقترابه من الشام هو البديل عن خان أيوب في قصيدة سعدي يوسف، والشجر الذي لا يريد الشاعر (إثارة شجونه)، وغصن الزيتونة الذي انكسر حين الاتكاء عليه هو المقابل لأشجار سعدي يوسف التي رآها تكبو كلما أرادت الاستطالة والنمو.

وهو ما يشير إلى أن تتبع الشاعرين البعثيين لبعض رواسم قصيدة زميلهما الشاعر الشيوعي الشكلية لا يمنع، كما أشرنا، من الاختلاف معه في الهدف والدلالة أو الدلالات الأيديولوجية.

والشاعر الشيوعي المطارد الذي ينجو بنفسه من السجن والمراقبة والتسلط في بلده، ينتصر هكذا بإبداعه ويجعل من قصيدته التي تتأبى على التقليد والقولبة المنطقية نموذجًا ومثالًا يقتدى به للاحتذاء والمعارضة، على الرغم من كل شيء.

اخر تحديث الأحد, 02 فبراير/شباط 2020 11:13