صلاح عواد عن حانة سعدي يوسف طباعة

المنّة لله ... إن باب الحانة مفتوح على مصراعيه

وجميع الأباريق بما حوت من نشوة في صخب واضطراب،

خمرها حقيقة وليست مجازاً.

حافظ الشيرازي

في إحدى مكتبات القاهرة، عثرت ذات يوم على مختارات شعرية لسعدي يوسف، صادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" عام 1994 تحت عنوان "كلّ حانات العالم من كلكامش إلى مراكش". وتضمّ المجموعة قصائد مختارة من أعمال الشاعر عن الحانات التي عرفها، أو التي مرّ بها، وتلك التي حفرت حضورها في التاريخ الأسطوري والواقعي مثل حانة سدوري في ملحمة كلكامش، وجبهة النهر (بغداد) والقيثارة الحمراء (برلين) على سبيل المثال. كما احتوت المجموعة على قصائد تشير بشكلٍ ما إلى الحانات سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مثل قصيدة "الأخضر بن يوسف ومشاغله" و"البحث عن خان أيوب". وتنتهي المختارات بثلاثة نصوص مسرحية قصيرة تدور كلها حول الحانات وما تفيض من حيوات بدءا من حانة سدوري.

فهل حرص سعدي يوسف على استخدام كلّ دلالات الحانة كما وردت في القاموس الإنكليزي، التي تعني البار، النزل، الحانة، المقهى، الصالون، والتي تعود أصلها إلى فرنسية القرون الوسطى، أم أنه ذهب مع اللغويين العرب بإرجاع أصلها إلى الفارسية "خانة" ثمّ قلبت الخاء إلى حاء؟ ومن الخانة يأتي الخان/ النزل/ الماخور.

وكما يبدو أن واضعي المعاجم العربية، قد تجاهلوا الصلة الدلالية بين الحانة والحنين والحنو، واتبعوا جناية الإمام أبي حنيفة النعمان (المتسامح في شرب الخمر) بإرجاع أصلها إلى الفارسية، ربما لأسباب فقهية ودينية. وعادة ما يختزل دلالة الحانة بحانوت الخمر والتي تعني بقالة بيع الخمور، ويتم تجاهل حضورها في العصور التي سبقت الإسلام.

وباستحياء انتبه ابن منظور في لسان العرب إلى الصلة بين الحانة والمصدر "حنا" الذي يعني انعطف، وبعد اشتقاق كل المعاني من المصدر ينتهي إلى القول "كانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت، وأهل العراق يسمونها المواخير، وأحداها حانوت وماخور"، ثمّ يربط بين الحاني، صاحب الحانة، والحانيّة، الخمارين، والحنوة، نبات سهلي طيب الريح. وربما كان أبو نوّاس يتقصى أثر ذلك النبات في حانات البصرة والكوفة وبغداد وفي أديرة المسيحيين ومعابد اليهود والمجوس.

لقد استدرك سعدي هذا الخلل في المقدمة التي وضعها لمختارات "كلّ حانات العالم"، مانحاً للحانة بعدا وجوديا، باعتبارها مكاناً يلتقي فيه الأحرار ويفترقون فيه أحراراً، ويقول "إن هؤلاء الذين يدخلون الحانة من بابها، والذين لا يعرف أحدهم الآخر، يعرفون في قرارة أنفسهم ونواياهم، أنهم ليتعارفوا، ويتمتعوا، بدون التزام مسبق".

وبالإحالة إلى إلحاح الشاعر ابي نوّاس بقدم الحانة عبر إشاراته الذكية إلى بابل والعصور السحيقة ضمن الفضاء التاريخي الذي يسكن ذاكرتنا البشرية، تستحيل الحانة إلى كون صغير. وبما أنّ الكون الصغير يحتاج إلى كون أكبر يقابله أو يتولّد منه، فلا بدّ للحانة مدينة، ويبدو أنه من المحال وجود مدينة بدون حانات، حتى في بعض مدن الشرق الأكثر محافظة، ثمّة حانات سرّية تحت الأرض يلجأ إليها البشر ليكونوا أحراراً.

صحيحٌ، أنّ للبحّارة حانات، وللمسافرين حانات يقرّوا إليها أثناء الرحلات الطويلة. لكن تبقى حانات المدن المرآة الأكثر أصالة لعكس مألات وانكسارات وأفراح وثقافات سكان المدن. وبدون هذه الحانات تبدو المدن عارية وجافة وتوحي بالاختناق. ولقد أدرك سعدي هذه الصلة بين الحانة والمدينة، وهو شاعر المدينة بامتياز حتى صار جلّ شعره مدونةً لمقاماته في مدن عاش فيها ولأخرى تعرّف عليها، ولمدن غافية في سرير التاريخ. وقاد هوسه بالمدينة قصيدته لتتحول إلى ما يشبه اليوميات، تخلو من الرصانة والفخامة البلاغية، مكرّساً لغته لما هو يومي ومشاع.

اختار سعدي عنواناً لمختاراته "كلّ حانات العالم من كلكامش إلى مراكش"، فهو يحيل إلى حانات العالم من أور وأوروك وبابل وإلى مراكش. لا أعرف هل هو من اختار العنوان أم أنه من اختيار الناشر؟ فلماذا تنتهي حانات العالم في مراكش؟ وهو الذي حلّ في حانات أخرى، في لندن ونيويورك وتورنتو والقاهرة وبكين وغيرها من مدن العالم؟!

كأنه في هذا العنوان يرسم دائرة ويأخذك في رحلة دائرية للعود الأبدي الذي تحدث عنه نيتشه. ومن هذه الدائرة تفيض كل حانات المدن الأخرى، حيث ذلك الختم الطيني، وحيث يتحلق السومريون حول جفنة خبز سائل، جعة، يستافونها بقصباتهم الطويلة، إلى تلك الحانة؛ "حانته، ربما دار في غيرها واصطفى عصبةً غير روّادها أو سقاة، أو مائدة في بلاد سواها".

فالحانة كما يقول سعدي في إحدى قصائده "أفق مفتوح"، وتكمن رمزية المكان في سريته وانفتاحه وفي توتره وانشراحه، كما أنه لا يتحقق إلا داخل علاقته بالمكان/ المدينة والبشر، فهو فضاء وجودي تتفتح فيه كينونة الكائن إزاء نفسها وإزاء كينونة الآخر. ومن هنا شاء سعدي أن يبني حانةً/ باراً في بيته اللندني لكي يبقي على أمثولة الرمز الحي.

عندما توجهت يوم ٣٠ من شهر ديسمبر الفائت إلى بيت سعدي الكائن بإحدى ضواحي لندن في منطقة هيرفيلد التي بأعلى التلّ، مستقلاً حافلةً من محطة نورث وود، كان ينتظرني عند بوابة منزله، فقادني عبر درجات سلم بيته المتواضع نحو صالة البيت. وتميزت الصالة بدفئها وعالمها الحميم، فثمة مكتبة في الجهة اليمنى احتوت على أعمال الشاعر وترجماته وربما كتبا أخرى، وفي الجهة اليسرى مكتبة أخرى. وثمة موقع لطاولة الكتابة، وآخر لقناني النبيذ الأحمر، وزينت جدران الصالة ببعض صور الشاعر وبوسترات لأمسيات شعرية أقامها. ولفت انتباهي إلى إحدى قصائده باللغة الإنكليزية وقد أطرها ببرواز من خشب، وهي القصيدة التي استخدمها مترو لندن في قطاراته ضمن مشروع إحياء الشعر poetry in motion، كما خصص في الجدران حيزاً للجوائز التي حصل عليها الشاعر.

وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث، أخذني إلى المطبخ ليفاجئني بباره/ حانته الجميلة، حيث ثبتت على قطع من الخشب قناني لأنواع مختلفة من الخمر والكحول مع سدادتها. فحدثني بفرح طفولي واضح عن الكيفية التي شيّد بها حانته، واختياره للخشب الذي سمره في جدران المطبخ، وعن الأدوات الأخرى، من بينها سدادات لقناني الخمر اشتراها عبر الانترنيت، فهي سدادات ومقاسات لسكب الكحول الذي تنوع بين أصناف عدة من الويسكي والجن والفودكا والكونياك.

ومن أجل أن يحاكي الحانات كما رآها، وضع ساعة مدورة كبيرة في الجدار فوق البار، ووضع لافتة من النيون كتب عليها BAR مع قنينة وكأس، وقريبا منها لوحة لبيكاسو وتحتها اللوحة الخشبية السوداء (السبورة) للإعلان عن وجبة اليوم (شوربة بامية وزقنبوت).

وقلت مع نفسي كما قال حافظ الشيرازي "المنّة لله... باب الحانة مفتوح على مصراعيه". وها هي حانة سعدي تقدم تمثيلات لكلّ حانات العالم من بابل إلى مراكش، حيث حانات ونزل بغداد والرباط والجزائر وباريس وبرشلونة وبرلين ومدريد ونيويورك ولندن وغيرها من حانات مدن العالم الكبرى. وكما قال حافظ إن "جميع الأباريق بما حوت من نشوة، في صخب واضطراب، وخمرها حقيقة وليست مجازاً".

 

نيويورك 12 يناير ( كانون الثاني) 2019