ســعدي يوسـف عبد الوهاب البيّاتي ، الذي أقامَ في القاهرة طويلاً ، وعرفَ مسالكَها وممالكَها ، قال لي ذاتَ مساءٍ : لنذهبْ إلى الجرَيّون ... لم أكن أعرف عن المكان شيئاً . على أي حالٍ ، أنا لم أعهد أن أتساءلَ عن مقاصد عبد الوهاب. كنا في ميدان طلعتْ حرب الشهير ، في قلب القاهرة الهادر ، حيثُ للشجرِ لونُ أتربةِ الـمُـقَطَّـم. سرنا قليلاً لندخلَ درباً ضيّـقـاً في نهايته بابٌ يتوِّجُها شــجرٌ ونبْتٌ متسلِّقٌ. قال البيّاتيّ : ها هوذا الجريّون ! وأضافَ : صاحبُ المحلّ عراقيٌّ صديقٌ . اخترنا طاولةً ، وســرعان ما جاء صاحبُ الجريّون متهللاً : مرحباً ! تعارفْنا .
* طالت السهرة ، وطالتْ ، وانضمَّ إلى الطاولةِ أصدقاءُ ، ثم طاولاتٌ . قلتُ لعبد الوهاب هامساً : إلى متى يظل المكانُ مفتوحاً ؟ أجاب : الجريون لا يغلق أبوابه ! * وبالفعل . الجريون لا يغلق أبوابه ... مرةً ، مررتُ في الثالثة فجراً ، فوجدتُ سيف الرحبي وزاهر الغافري يشربان البيرة ويتجادلانِ جدالاً حادّاً ! للجريّون فضلُهُ ، إذ هو من الأمكنة النادرة الآن، في القاهرة ، للقاءات المبدعين . وكم هي غنيّةٌ وآســرةٌ تلك اللقاءات ... أتذكّر بالحرف الواحدِ ما رواه سليمان فيّاض عن صديقنا الطليعيّ :هشام قِشطة. قال سليمان فيّاض : ذهبَ هشام قشطة إلى معمل بيرة ستَيلاّ ، وقال : أريدُ أن أنتحر ! قالوا له : هذا ليس مكاناً للانتحار ... قال: بل أريد أن أنتحر! أدخِلوني في برميل بيرةٍ وأغلِقوا عليّ الغطاء ... قالوا : إنْ أصررتَ فعلْنا ما أردتَ ! هكذا غطّسوا هشام قشطة في برميل بيرة ، وأحكموا عليه الغطاءَ ، ومضَــوا. في الصباح جاؤوا ، وكشفوا الغطاءَ ، وإذا بالبرميل فارغٌ ، و هشام قشطة ليس فيه ! * في آخر زيارةٍ لي إلى القاهرة ، دخلتُ الجريّون ، لكنه كان مكتظّاً بالناس والدخان ... إلى حدٍّ خانقٍ . كان الجالسون ، جميعاً ، يتابعون على شاشة التلفزيون ، مباراةً كبرى لكرة القدم ! لم أستطع أن أجد طاولةً ، ولم أُرِدْ أن أزعج أصحابَ المحلّ ... اكتفَيتُ بالزيارة ، إطلالةً على صديقٍ عزيزٍ . لندن 16.05.2010
|