" المختارات" لها قصّــتُـها أيضاً … |
|
ســعدي يوســف آنَ كنتُ في البلاد التونسية ، قبل أكثرَ من عَــقْدٍ من الزمان ، فكّــرتُ في أن أنخِـلَ شِــعري ، فأختارَ من نخيلــه . لم يكن ثـمّتَ سببٌ . ولربّــما كنتُ أُزجي الوقتَ ؛ فاليومُ طويلٌ في تونسَ ، وبخاصّـةٍ لـمَن ليس من أهلِــها ، الأهلِ ، مـثلي . وهكذا جئتُ بغربالي ، وشــرعتُ أنخِــلُ . آنذاكَ كانت القصائد المتكومة في الغربال تمتد في الفترة من1955 إلى 1993 ، مستغرقـةً ما يقارب الأربعين من الأعوام . العجيب في الأمر أن نـتـيـجَ الغربلةِ كان ثلاثة دفاتر يضمُّ الواحدُ منها أكثرَ من مائة صفحة ! أكنتُ متساهلاً ، أم أنني تيّــاهٌ بشِــعري إعجاباً ؟
كلا الأمرَينِ واردٌ ، أو أحدُهما في الأقلّ ! بعد تونس الخضراء ، تونس الخليج والكروم والكرَم والقيروان ، والأصدقاء الكِــثار ، ترحّـلْتُ وأقمتُ في بلدانٍ عدّةٍ : فرنسا ، سوريا ، الأردن ، و المملكة المتحدة أخيراً … تركتُ في كل بلدٍ أوراقي ( إلاّ الشِـعر ) وكتبي ( مكتبتي الصغيرة ) ، لأحاول أن أبني مكتبةً صغيرةً أخرى منذورةً لأن تُــترَكَ في صبيحةٍ غامضةٍ ، أو في مســاءٍ ملتبسِ الجهات . لكنّ " المختارات" التونسية التصقتْ بحقائـبي … هل الأمرُ مصادفةٌ محضٌ ؟ * قبل أيامٍ اتّصلتْ بي ســوســن بشــير من القاهرة . قالت لي : بلغَــني أنك آتٍ إلى مصر ، في موعدٍ غير بعيدٍ عن أيام معرض الكتاب . ما رأيُكَ في مختاراتٍ ؟ فوجِئتُ بالمــقــترَح ! ثم تَـمَلّـيتُــهُ ، فرأيتُ أنه مستحيلٌ ضمن السقف الزمني المتــاح . قلتُ لها : سأفكِّــرُ … ( أعني سأصرف النظر! ) . * في مساء اليوم نفســه ، ألَــحَّ عليّ الــمـقـترَحُ … وفي مثل الفجاءةِ ، أو طائفِ الكرى ، تذكّرتُ أنني أعددتُ مختاراتٍ من شِــعري ، في مقامي التونسـيّ ! أتكون معي الآنَ ؟ في الليل ( وهو بهيمٌ في الريف الإنجليزي أيضاً ، شأنَ الأريافِ كلِّــها ) ، أمسيتُ أبحثُ عن تلك المختارات ودفاترها الثلاثــة … ولقد وجدتُــها ! كانت مندسّـةً في ركنٍ لا يكادُ يَــبِــينُ من أحد الرفوف التي اكتظّتْ منذ أمَــدٍ . * لكنّ المـطمَــحَ اختلَفَ ، بعد الدفاتر . هل بالإمكان أن تمتدّ " المختارات" إلى ســنة 2005 ؟ مع الدفاتر التونسية صار كل شــيء ممكناً ! * لكنْ … كيف يختار المرءُ نصوصاً ؟ إنْ لم يكنْ كاتبَــها ، تَـيَـسَّــرَ الأمرُ . أنت تختار نصوصاً عن أعماق البحار مثلاً ، أو آفاق الفضاء ؛ فتذهب إلى مظانِّكَ ، هنا وهناك ، وتلتقطُ بُـغْـيَتَكَ المحدودة المحددة ، وتؤوب بغنيمتك راضياً . أمّـا إن كنتَ كاتبَ النصوص ( الشعرية بخاصّـة ) ، فالأمرُ سيكونُ جدَّ مختلف . على أي أساسٍ سوف تُـقِــيمُ اختيارَكَ ؟ الزمن؟ الغرَض ؟ القيمة الجمالية ؟ * حين تضع الزمن ، وحده ، أساساً للاختيار ، فأنت تؤدي مهمّـةً محددة ، قد تكون ذات نفعٍ كبيرٍ في مجال الدراسة والتوثيق . وحين تضع الغرضَ أساساً للاختيار ، فأنت تؤدي مهمّــةً شبه اجتماعية ، قد تكون ذات نفعٍ كبيرٍ في تتبُّعِ الاتجاهات العامّــة لحِقبةٍ معيّـنةٍ وعلائقها بالنص الشعريّ . وحين تضع القيمة الجمالية أساساً للاختيار ، فأنت تؤدي مهمّــةً غايةً في الدقّــة والمسؤولية ، عبرَ رصدِك المنجَــزَ الفنــيّ وتجلِّــياتِـه الأدقَّ رهافةً .. * أمّــا سبيلي الشخصيّ ، في هذه " المختارات " فكان الجمع بين عنصرَي الزمن والقيمة الجمالية . أي أنني حاولتُ أن أضع المنجزَ الجمالـيّ في سياقه الزمني ، كي تسهُلَ متابعةُ قِـيَـمٍ فنيةٍ معيّـنةٍ عبر السنوات ( عبر العقود – في حالتي ) : الصورة – التكرار – الجناس – التضادّ اللغوي- الجملة الشعرية – اللحظة السايكولوجية - تعدُّد الأصوات – تداخل الأزمنة - اللون وتدرّجاته - استخدام الـموروث الشعبي – التنقيط - المفردة الأجنبية - اسم العَـلَــم – الاسم الجامد – إحالةُ المشتقّ إلى الجامد – الموقف من النعت – الموقف من الحال – الموقف من التشبيه - الموقف من التشبيه بالإضافة - معالجة الفَــضْـلة - أطروحة الاستغناء عن المصدر بإطلاقٍ - الخ . هذا إن أردنا التعبيرَ بدمٍ باردٍ . * غير أن المســعى مختلفٌ . اختلافُ الـمسعى ، يَـتـأتّـى من كونكَ غيرَ ذي دمٍ باردٍ ، حتى لو ظننتَ غيرَ ذلك . وهكذا ، ستكون في مَـهَبِّ الريحِ ، أُسُـسُــكَ الثلاثةُ التي اعتمدتَــها للاختيار … لا زمن لا غرض لا قِـيَم . * الخيطُ الـخفِـيّ الذي ينتظمُ حياتكَ ونَـصَّـكَ ، وينتظمُ ما خفِـيَ منكَ وما بَطُــنَ ، هو : الفوضى … ولسوف تلْحَظُ أنّ كل العواملِ والأسئلةِ والأعاريضِ والعوارضِ … كلَّ حِــرْفيّــةِ المهنة الشعرية … كلَّ حياتكَ غيرِ الــمُـجْــديةِ … كانت استجابةً للخيط المقدّس الخفيّ الذي تتمسّكُ به ( حتى لو لم تَعِ ذلك ) في الــمتاهة ، متاهةِ العيش العاديّ والقماءة ، هذا الخيط الذي يصلُك بالفوضى البعيدةِ والجميلةِ مثل ســرابٍ . ويصلُكَ بما يستحقُّ أن تعيشَ من أجله ، و تموت من أجله . إذاً ، أنت تنتظمُ ، لتدخل في الفوضى مجهَّــزاً ! أعتقدُ أن " المختارات " تدور في الدوّامةِ هذه ! * أمّــا بَـعْــدُ … فهاهو ذا كتابي الشعري الثاني يصدرُ في مصر عن " آفاق " . أمّـا الأول فكان " أربع حركاتٍ " أصدرتْها قصورُ الثقافة أيام محمد عيد ابراهيم . لندن 7/12/2006 * المادة مقدمة لكتاب " سعدي يوسف – مختاراتي 1955/ 2005 " الذي يصدر أوائل شباط ( فبراير ) 2007 ، عن دار " آفاق " القاهرية ، لمناسبة مؤتمر الشعر العربي الأول المنعقد هناك .
|