الجانب الآخر من الحدود طباعة

 سـعدي يوسـف
 بين الثاني عشر من شهر تشرين أول ، هذا العامَ ، 2006 ، والخامس والعشرين منه ، كنتُ في كندا ، للمرة الأولى . لم يكن الأمر مفاجأةً ، إذ سبقَ الزيارةَ تحضيرٌ دقيقٌ ، وضبطُ مواعيدَ ، وإرسالُ نصوصٍ ، وترجمةُ أخرى ، إلى كل ما يتّصل بالسفرة من شؤونٍ قد تبدو غريبةً ، كالسؤال مثلاً عن حساسية معيّنةٍ في الطعام ، أو إنْ كنتُ  أعاني من دُوارِ البحر ، إذ أن البرنامج يتضمّن الإبحار بـ " عَـبّارة " ضخمة للوصول إلى فكتوريا ، لؤلؤة الباسفيك الشماليّ، حيث ستستضيفني كليةُ الآداب بجامعة فكتوريا ، لألتقي مع الطلبة المتقدمين في الدراسات الأدبية ، وكذلك مع المهتمّين بشؤون الثقافة

والسياسة ، في لقاءٍ عامٍّ  ، بإحدى قاعات الجامعة .
محطّتي الكندية الأولى في " مهرجان فانكوفر الدوليّ الثاني عشر للكتّاب والقرّاء ، كانت مدينة كالغاري ، غربيّ كندا ، بوّابة جبال الروكي ، التي يمرّ بها نهر " بو " الشهير ، المدينة المعروفة بأنها مركزٌ تجاريّ هامٌّ ، وملعبٌ لتربية الخيول ورياضاتها ،  ومركزٌ دوليّ للتزلّج أُقيمت به قبل أعوامٍ الألعابُ الشتوية العالمية .
في المركز الثقافي بالمدينة ، المرتبط مع الفندق بممرٍّ تحت أرضيّ ، ألقيتُ قصائدي باللغة الإنجليزية ، لكني ألقيتُ النصّ الأصليّ العربيّ أيضاً
لقصيدة " ليل الحمرا " . بعد أن انتهينا من إلقاء نصوصنا ، خرجنا  للقاء القرّاء . فوجئتُ بأن كتاب قصائدي الصادر في الولايات المتحدة الأميركية ، باللغة الإنجليزية ، عن دار غراي وولف ، بولاية منيسوتا ، كان معروضاً للبيع ، ولأن أوقِّعَ على النسخ الـمَبيعة .أقول فوجئتُ بهذا ، لكن مفاجأتي الكبرى كانت في لقائي جمعاً من عراقيي كالغاري كانوا من بين حضور الأمسية . بين هؤلاء أطباء وأساتذة جامعة ومهندسون ، جاؤوا مع زوجاتهم وأشواقهم . عرفت منهم فاروق يوسف اسماعيل  ، شقيق خالد يوسف . رجلٌ كريمٌ ، طبيب ، قدّمَ لي ديوان ابنه ، زيد شلاح ، باللغة الإنجليزية . قال لي : إن ولدي يدرِّس أشعارك . زيد شلاح أستاذٌ في نيو كوليج بكاليفورنيا .
مقطع من قصيدة لزيد شلاح
 هل عرف قيصر وكتائبُهُ ، هل عرف البيزنطيون ، هل عرف الإسكندرُ
والإغريقُ ، هل عرف العثمانيون ، وقبل ذلك ، قبل أغنية    أفلاطون
 بخمسمائة سنة ،هل عرف ملكٌ آشوريٌّ اقتحمَ بابل بعربته الذهبِ معلناً
سقوطَ الآلهة الكاذبة ،  ومبشِّـراً بآلهةٍ جديدةٍ ، هل عرف أنه ،  كذلك ،
سوف يرتفع ليسقط . سوف يتألّقُ ليخبــو ؟
أتساءلُ متى سيسقط الأميركيون...
*
محطّتي الكندية الثانية ( في الغرب دائماً ) ، كانت في " بانْف" ، وبانْف هذه تقع في وادٍ ضيّقٍ بين جبال الروكي التي تتسامقُ قممُها معتمِرةً الثلج ،  وتتباهى مسالكُها ، حتى التي يسلكها الناس في سعيهم اليومي ، بالغزلان والأيائل ، تجوب الدنيا حرّةً طليقةً ، غير نافرةٍ من البشر .
والمكان مركزٌ ثقافيّ فريدٌ ، في كندا ، يعمل طولَ العام ، فيه مدرسة للموسيقى ، وأخرى للرقص ، ومركز أبحاث للمناطق الجبلية ، ومَرْبعُ تزلُّجٍ ، ورياضةِ ماءٍ . فيه كل ما تتخيّله ، من مكتبة ، ومعتكَفاتِ عملٍ إبداعيّ ، ومسبحٍ ، وصالات لياقةٍ بدنيةٍ .
قيل لي هناك إن القراءة الشعرية ستأخذ شكل " كاباريه شعريّ " . كنتُ سمعتُ عن ذلك ، وشهدتُه مرةً ببرلين التي ابتدعت هذا الشكل في أداء الشعر بين الناس . لكنني لم أجرِّبه ، وهاأنذا أقع في ما لا بُدَّ منه .
نحن في الظهيرة ، والإلقاء سيكون مساء اليومِ نفسه .
 ما العمل ؟
شاعرٌ كنديّ شابٌّ كنتُ قرأتُ معه في كالغاري أخذني إلىالمحترَف الموسيقيّ ، وعرّفني على اثنين : عازف جَـلو ، وعازف باس قيثار .
أعطيتُ الشابّينِ نسخةً ممّا اعتقدُهُ صالحاً للأداء :
قصيدتي المعروفة :  أميركا ، أميركا
وأخرى بعنوان " نيو أورليانز " ، تدور حول ما تعرّضت له المدينة في إعصار كاترينا ، وبخاصة الزنوج من أهلها .
قال الموسيقيان إنهما سيهيّئان الموسيقى والمرافَـقة .
وهكذا كان .
والواقع أنهما اشتركا معي  ، متناوبَينِ ، في أداء النصَّينِ .
بعد انتهاء الأداء ، ومع التصفيق العالي ، شعرتُ بنشوةٍ  أقرب إلى الدوخة !
وعرفتُ  ، تماماً ، معنى " الكاباريه الشعريّ " .
*
يقول أحد الكتّاب الكنديين : إن كندا مساحةٌ شاسعةٌ منقّطةٌ بمراكزَ آهلةٍ !
وهكذا ، يتعيّن على المرء أن يستخدم الطائرة ، دائما ً ، وهكذا أيضاً تَعَـيّنَ عليّ أن أركب الطائرة ، إلى فانكوفر ، من مطار كالغاري الذي بلغناه عائدينَ بالسيارة من " بانف" .
في مطار فانكوفر  ،( وهو دوليّ طبعاً ! ) كان ينتظرني الشاعر الكندي بْرادْ كْران ، الذي وجّه إليّ الدعوة أساساً ، واللبناني الكنديّ  محمد فارس الذي كان أبلغني ، عبر الأنترنت ،  وقبل زيارتي بوقتٍ طويلٍ ، أنه سيستقبلني ، ويُعَرِّفُني على الجو العربيّ والعراقيّ بالمدينة .
كان الفندق في جزيرة جرانفيل ، وهي في الأصل حوضٌ لبناء الزوارق الخشب التي يهيم بها الكنديون ، ويمارسون رياضتَها ، لكنها حُوِّلتْ إلى مُرتَـبَعٍ للفنّ والفنانين ، وبُنيَتْ عليها أكاديميةٌ مرموقة للفنون الجميلة ، وأُقيمَ مسرحٌ تجريبيّ ، ممّا جعل فنانين كثاراً  يختارونها مكاناً لمحتَرَفاتهم .  في جزيرة جرانفيل أيضاً ســوقٌ شــعبيٌّ  شهيرٌ  ، وفيها كذلك محطة التاكسي المائيّ الذي ينقل الناس من جانبٍ  إلى آخر في فانكوفر .
القراءة تتمّ في قاعةٍ تبعد عن الفندق أمتاراً .
قرأتُ بالإنجليزية عدة قصائد ، وبالعربية والإنجليزية  قصيدةَ " ليل الحمرا " أيضاً.
كما كانت هناك مداخلةٌ حول الأدب والسياسة.
وقد قدّمتُ ، بصراحةٍ ، ووضوحٍ ، رأيي في جريمة الاحتلال ، وعقابيلِها اللعينة على الشعب العراقي .
استقبلَ الحاضرون كلامي بالتصفيق !
*
العراقيون المقيمون في فانكوفر ، منذ عقود ، دعَوني إلى عشاءٍ في مطعمٍ لقبرصيّ يونانيّ . كان العشاء لذيذاً  ، ومقدمةً لسهرةٍ في مساءٍ تالٍ،
ببيتِ سيدٍ فلسطينيّ .
في ذلك المساء غنّى قيس السامرّائي على أنغام عود يامُلكي .
امتدّت السهرة حتى الفجر .
أوصـلَني إلى الفندق سيّدٌ من آل العبد الواحد  ، وهم أسرةٌ بصريةٌ كريمةٌ .
أسَــرَّ إليّ الرجل بأن بدر شاكر السياب أحبَّ إحدى قريباته ، وأنها هي ابنةُ الشلبي في القصيدة الشهيرة " شناشيل ابنة الشلبي " !
*
ليلى نادر ، كاتبةٌ من فانكوفر ، جاءت إلى لندن لإجراء مقابلة معي تسبق زيارتي كندا ...
محمد فارس ، دعاها مع زوجها سْكوتْ ، لنتعشى سويةً  في مطعمٍ ذي خصوصية .
*
في اليوم الأخير من إقامتي بجزيرة جرانفيل ، جاءني تِمْ لِلْـبُورْن ، الشاعرُ ، والأستاذ بجامعة فكتوريا ، ليأخذني إلى جزيرة فكتوريا ، عاصمة كولومبيا البريطانية ، حيث الجامعةُ ، وتمثال الكابتن كوك ، وحيث تجوبُ الحيتانُ وأسودُ البحر مياهَ المحيط الهاديء الشمالية .
قال لي إن الحافلة ستُحَـمَّل ، ونحن فيها ، على العَـبّارة ( الـمُعَــدِّية كما يقول أهل مصرَ ) ، وإننا سنُمضي حوالي الساعتَين في مياه المحيط ، قبل أن نرسو في فكتوريا .
*
يقالُ إن فكتوريا أكثرُ إنجليزيةً من بلاد الإنجليز " إنجلترا " !
والحقُّ أن المرء يلمُسُ ذلك ، في طبيعة المبنى ، والمأكل، والـمَلبس ، في الإنجليزية المنطوقة ، وفي الطبع الأنيس غيرِ المتحمّس .
التمثال الوحيد للملكة فكتوريا ، شابّةً ، منتصبةَ القامة، لا امرأةً وسَطاً جالسةً على العرش  ، ممسكةً بالصولجان ، وجدتُه في فكتوريا
يواجه البحر عند مبنى المجلس التشريعيّ .
*
دعاني تِمْ لِلْبورن إلى عشاءٍ في منزله الملاصقِ جبلاً .
استقبلتنا زوجته هيلين ، ثم انضمّت إلينا الشاعرةُ جان زفيسكي :
عِـزُّ الصيف .الدروب إلى البيت مترِبة
مثل رَفِّ طفولةٍ لم يُمَسّ . الحقول تذوبُ في قيظٍ ،
بحاراً قاحلةً ساطعةً . جانب النهر جافٌّ أيضاً . السيول قضمت ضفّتيه .
عنفٌ غيرُ مستعادٍ . ماؤنا الوحيدُ هو الـمِلْح .
*
تِمْ لِلْبورْن :
هذا ما تبتغيه .
تمضي في تلال القنافذ عصرَ يومٍ باردٍ ،
وتنحدر عبر ممرٍّ للقَيقَبِ ، إلى أرضِ " سام" ، وراء كثيبٍ يغطيه  عشبٌ خفيفٌ .
ثم تدخل في دغْلٍ حقيقيّ
ثمّتَ ســتبصر الغزلان .
ليس لإيروس إلاّ أن يكون أسـىً
أنت لن تبلغَ السبيلَ لتبصرَ الغزلان ...
 *
قال تِمْ لِلْبورن ، مشيراً إلى غابةٍ تمتدُّ أمامنا ، ونحن ماضيان بسيارته إلى الجامعة  : هذه غابةٌ مَطَريّة . واستدركَ : غابةٌ مَطرية شمالية . وبعد دقائق قال : ليس بيننا وبين ولاية واشنطن ، سوى كيلومترٍ واحدٍ . حمداً للّـه . نحن على الجانب الآخر من الحدود !
إشارة تِمْ هذه ، تعبِّــر عن قلقٍ  متنامٍ يساور الكنديين ، بصدد الولايات المتحدة وأطماعها ، وبخاصة في ما يتّصل بالنفط والغاز .
وهم يقولون بأن الشركات الأميركية الكبرى تريد التهام كندا بما فيها  ، وقد شرعت هذه الشركات ترشو الناسَ والمؤسساتِ .
إن وعْياً وطنياً جديداً أخذ يتنامى في كندا .
الكنديون يخشَون أن تلتهمهم الولاياتُ المتحدة .
قلتُ لتِمْ لِلْبورن : حمداً للّـه ... أنتم تحت رعاية الملكة إليزابَث الثانية !
خُصِّصَتْ مبالغُ هامّـةٌ لبناء الوعي الوطني انطلاقاً من تشجيع الثقافة والفن ، وزيادة الأنشطة الثقافية .
الكنديون يقولون إنهم يعرفون كل شيء عن الثقافة الأميركية ، بينما الأميركيون غير مَعْنيّـين أساساً بشيء اسمه الثقافة الكندية .
ومن هنا صار التأكيدُ على الثقافة الوطنية الكندية أشدَّ إلحاحاً .
في السابق ، كانت مقاطعة الكيبك  هي الأكثر استثماراً في الثقافة ، بفضل التوظيفات الفرنسية في هذا المجال .
لكن كيبيك تبتعد ، تدريجاً عن كندا ، ولربما استقلّت، في العام 2012 ، كما يشاع ويقال .
إذاً كندا الكندية ، هي ذات ثقافةٍ انجليزية !
في المهرجان العالميّ الذي استمرّ أسبوعين لم يُدْعَ أحدٌ من الناطقين بالفرنسية .
اتّصلتُ بصديقةٍ شاعرةٍ من كيبيك ، تكتب بالفرنسية ، هي لويز وارِن . سألتُها : ألم تُدْعَـي أنتِ ؟
أجابتني : لم يُدعَ أحدٌ منّـا ، هنا في كيبيك !
*
في الرابع والعشرين من تشرين أول ( أكتوبر ) جاء ،  تِمْ ، في الصباح الباكر، إلى فندق جراند باسيفيك ، حيث مقامي بفكتوريا .
أراد أن يظلّ معي في مرآب الحافلات التي ستنقلني إحداها إلى مطار فانكوفر ، في الخطوة الأولى من العودة إلى لندن التي أحببتُ .
رجوتُه أن يكتفي بإيصالي إلى الحافلة ، فلسوف أتدبّر أمري ...
سألني : أأنت متأكدٌ ؟
Are you sure ?
وتذكّرتُ التعبير اللندنيّ رأساً !
*
بعد أن قرأتُ قصيدتي " مستعمرة رومانية " باللغة الإنجليزية ، وقد وردَ فيها المقطع الآتي :
But we were Greeks
And peasants
So, we didn’t manufacture weapons
And didn’t train our boys to be soldiers
(Aristotle’s disciples didn’t tell us that their master
Was training the son of Philip the Macedonian to conquer cities! )
The world changes they said
Even the sun will rise from the west …

وترجمته العربية هي :
لكنّا يونانيون
وفلاحون
فلم نصنعْ أسلحةً
لم نعرفْ كيف نُعِدُّ الفتيانَ جنوداً
( ما قال تلاميذُ أرسطو  إن معَلِّـمَهم كان يدرِّبُ ابنَ فيليب المقَدونيّ على غزوِ الـمُدُنِ ! )
الدنيا تتغيّــرُ
قالوا
حتى الشمسُ ستشرقُ من جهةِ الغربِ ...
………………
قال أحد الطلبة :
أنا أعدُّ أطروحةً عن أرسطو كما أشار إليه الشعراءُ ...
وأنت أولُ مَن أشارَ إلى دورِ أرسطو في إعداد الإسكندر المقدوني لغزو العالَم ...
ملحوظة: النصوص الشعرية الكندية من ترجمتي .

                                                 لندن 27.11.2006