ســعدي يوســف " حفيدُ امريء القيس " الذي صدر مؤخراً ، عن " دار المدى " بدمشق ، في مائتين وست عشرة صفحة من القَطع المتوسط … " حفيدُ امريء القيس " ، هذا ، هو كتابي الشعريّ السادس والثلاثون . قد يقول قائلٌ ، وله الحقُّ في ذلك : لكنّ العِـبْـرةَ ليست في العدد . العِبرةُ ليست في العدد قطعاً ؛ إنها في المعدود . أمباهاةٌ بالوصول ، أم احتفاءٌ بالطريق ؟ أظنني ميّالاً إلى أطروحة الطريق الطويل ، التي لا أطروحة سواها إنْ أخذنا الفنّ مأخذَ الجِــدّ . الجدوى ، ذاتُ القيمة السائدة
في التعامل اليومي العاديّ ، ليست واردةً على امتداد الطريق الطويل . الفن خيارٌ ملتبسٌ . لأنه في لحظةٍ واحدةٍ وحيدةٍ ، حسبُ ، في حياة المرء ، يبدو الخيارَ الأفضل ، بل الفريدَ . هل تُـمْـكِـنُ المراجعةُ ؟ نعم … يحضرني الآنَ حديثٌ لـ " جون لِينون " مغني البيتلز والعازف ومؤلف الأغاني ، القتيل في شبيبته برصاصات مارك ديفيد تشابمان ، ذات يومٍ في نيويورك ، في الثامن من كانون أول 1980 ، أمام باب منزله . سُـئلَ لينون ، إن كان سيختار سبيلاً آخر لو استطاعَ … أجاب : وددتُ لو كنتُ صيّـادَ سمكٍ . لو استطعتُ أن أكون غيرَ ما أنا الآنَ لفعلتُ . أتدري ما الأمر ؟ ليست مِزحةً أن تكون فناناً . أتعرف ما الكتابةُ ؟ إنها ليست مِزحةً . إنها تعذيب . قرأتُ عن فان غوخ وبيتهوفن ، كليهما ، وقرأت في اليوم التالي مقالاً وردَ فيه أنه لو كان لديهم آنذاك أطبّـاء نفسانيون لَما كانت لدينا لوحات فان غوخ العظيمة . وهؤلاء الأوباش يمتصّــوننا حتى الموت . يريدوننا أن نفعل كما تفعل حيواناتُ السيرك . أنا مستاءٌ من كوني فناناً بهذا المعنى . مستاءٌ من تقديم فني إلى قومٍ بُـلَـهاء لايفهمون شيئاً .هم لايستطيعون أن يحسّـوا بأنني أنا الرجلُ ذو المشاعرِ لأنني المرءُ الذي يُـعَــبِّــرُ . أولئك يحيَونَ من خلالنا ، نحن الفنانين … وددتُ لو كنتُ صيّــادَ سمكٍ ! جون لينون قال ذلك في العام 1970 ، وهو في الثلاثين من عمره . كان بمقدوره أن يعود صيادَ سمكٍ ! أمّــا أنا … * التفَــكُّرُ في الفنّ الشِعريّ يعيدُ المرءَ ، أحياناً ، إلى التفكُّــرِ في جدوى الوجود الشخصيّ ، ما دامَ الفنُّ والشخصُ مرتبطَينِ ارتباطاً لا بديلَ منه ولا فَكاك . صحيحٌ أن الدورة الفيزيقية لابن آدمَ ذاتُ قدْرٍ واضحٍ من العبثيةِ والحتميّـةِ المقرفة ، لكنْ قد يَــرِدُ سؤالٌ : إنْ كانت هذه الدورةُ مقررةً ، مقدّرةً ، منذ إقامةِ الإنسان في الأرض ، أفليسَ ممكناً الوصولُ إلى صيغةٍ فضلى كي تغدوَ أيامُـنا أجملَ وأصفى وأكثرَ استشرافاً ؟ أن تكونَ فناناً يعني أن تكون مسؤولاً ، بذاتكَ أوّلاً ، عن تناولِ الحياةِ كما تُـتناوَلُ فاكهةً ذاتَ مذاقٍ . أهي الرسالةُ الخفيّــةُ للفنّ ، منذ رسوماتِ الكهوفِ الأولى ؟ أليست ثيرانُ الكهوفِ أجملَ وأرقَّ من ثيرانِ الـمَــناقعِ ؟ * الكتابُ الشعريّ السادسُ والثلاثون … هل بدأتْ معـهُ ، وحَولــهُ ، مغامرةٌ ما ؟ بعد أكثرَ من نصفِ قرنٍ ، مغالَــبةً ، ومجاهَــدةً ، في حيثيّـاتِ الحِرفةِ والـمُـحترَفِ والحرفِ ، بدأتُ أتلمّسُ حريةً طريّــةً : صرتُ أُجِــيزُ لنفسي ما لم أكن لأجيزهُ ، من قبلُ . كأنْ أُنَــوِّعَ في الموسيقى . أو أشتقَّ كلماتٍ ليست في القاموس . أو أنتهكَ ، في القولِ ، محرَّماتٍ لم أكن لأجرؤَ على أمثالها ، في ما سلفَ من زماني . الإيغالُ ، ومحاولةُ الـتغلغُلِ ، في الطبيعةِ . الاعتمادُ ، أكثرَ ، فأكثرَ ، على أخلاقية الحواسّ . الإعراضُ المتواترُ ، المتوتر ، عن العابرِ ، وغيرِ المتّصلِ بالجوهريّ . * نحن في الحادي والعشرين من أيّــار . اليوم أحدٌ . والشمسُ التي تبدّتْ ، دقائقَ ، اختفتْ خلفَ غيمٍ ليس ثقيلاً . شرعت القطراتُ الأولى ترسُـمُ على زجاج النافذةِ أشكالَــها ، المختلفة كلَّ مرةٍ . وعلَــيَّ أن أراقبَ المشهدَ : مَـنْـجاتي وسبيلي الوحيدُ إلى مقاربةِ الفن والحياة ، في آنٍ . * لم يحتفلْ أحدٌ معي بصدور كتابي الشعريّ السادس والثلاثين . سأرددُ مع والت ويتمان : أحتفي بنفســي ! لندن 21/5/2006
|