القصـــيدة الـمُـخالِــفـة * طباعة

ســعدي يوســف
طالَ ما وجد المرءُ نفسَــه في حيرةٍ من أمرهِ ، وهو يحاولُ مدخلاً مجْـدِياً إلى قصائد لقمان ديركي ؛ أقصدُ  أن المداخل قائمةٌ  ، متاحةٌ  ، لكنّ الجدوى متفاوتةٌ ، ومن هنا تأتي الحيرةُ في اتخاذ الخطوة الأولى ، الخطوةِ ذات العلاقة بالشخص قبل النصّ . ليس بمقدورك ( بمقدوري ) قراءة نصّ لقمان ديركي الشعري بمعزلٍ عن تمثُّـلِ شخصه .
والشخص ، هنا ، ذو مرجعيةٍ وراهنيّـةٍ  معيّـنتين ، والاثنتان منفصلتان عن عاديّة الواقع انفصالاً عجيباً .
ليس لدى لقمان مرجعية شعرية مقررة مقدّسة . لكنّ لديه اعتبارات : رياض صالح الحسين أولاً وربما أخيراً . لماذا يمضي

بعيداً إن كان رياض مضى أبعدَ مما يتحمّل ويُحتمَــل ؟ الدرسُ قائمٌ ، مستمرٌّ . المرجعية شخصيةٌ تماماً .
أمّــا الراهنية التي أنقذت لقمان من الذوبان في تفاهة النص السائد ، فهي متّصلةٌ بأنه خارج الاعتبارات والمنافع والوظائف . ليس موظفاً في صحيفة ، ولا ناشطاً في تنظيم سياسي ، بل ليس ذا شُغلٍ ثابتٍ على أي حالٍ . هكذا صار خارج التزوير والكذب ،  والضحكِ ( شعرياً ) على القاريء البريء عادةً . ثم أنه ليس مغرَماً بالقراءة ، أي أنه ليس دودة كتبٍ . مادّتــهُ الخامُ مباشِــرةٌ من الحياة ( ليست الحياة اليومية المألوفة ) ، واستعدادهُ للاستقبال مستنفَــرٌ على الدوام ، كأنه آدمُ في هبوطه الأول على أرضنا ذات الرتابة ، الرتابة التي لن يعرفها  .
لقمان ، الكائنُ اليومي ، في ديالوج دائمٍ دائبٍ : حديثٍ لا يتوقّف إلاّ مع الخمود الطبيعي لوظيفة الجسد . هذا الديالوج يتخذ هيأة السردِ في بهائه ، ويمتشق أيضاً أسلحةَ السردِ في مـضائه :
·     المباشــرة .
·     التقاط اللحظة .
·     الموقف النقدي .
ليس بإمكانك الفصلُ بين ديالوج الكائن اليومي ، والنصّ الشِــعريّ . إنهما متداخلانِ تداخلاً لا يتحمّل العبث أو محاولةَ التمايز .
يا لأدوارٍ أمنحُها أنا
يا لَشخوصٍ أرتِّــبُــهم أنا
يا لَلمشهدِ يبداُ بإشارةٍ مني
يا لَــلـمهزلة ‍‍‍!
قلتُ إن الشاعر مسلّحٌ بالسردِ ، عارفٌ بما هو فاعلٌ ، وملتقطُ لحظةٍ وزاويةٍ :
في يوم المسرح العالميّ
أهديتُكم ثماني قرنفلاتٍ
وكنتِ تعتذرين مني كلما مدحكِ شخصٌ .
في يوم المسرح العالميّ
أُسدلت الستارةُ
ولم تحجبْ من الممثلين ســواي .
لكأن هذا هو التماهي الحقُّ بين المهرِّج والفيلسوف ، بين اللاعبِ وما وراء اللعبة .
أليس الفن ، بإطلاقٍ ، هو هذا  ؟
آنَ استعملتُ تعبير " المباشَــرة "  ، كان استعمالي احتراماً للمصطلَح وتقديراً  ، وتأكيداً في الوقتِ ذاته على أن تجنُّبَ المباشــرةِ مرضٌ أصيبتْ به القصيدة لدينا ، مرضٌ ظلَّ يُعمِـلُ في الشِعرِ تشذيباً وتهذيباً حتى فقدَ جناحيهِ :
قوادمَ وخوافيَ  ، وحتى لم يعُدْ ذا مغزى أو جدوى … بَـعُـدَ فابتعدَ عنه الناسُ وتناسَــوه ، لأنه ابتعدَ عن الناس وتناساهم  ، موغلاً في اللامباشَــرةِ  ونفخِ الهواء في البالون المثقوب .
لكنّ المسافة التي يضعها الفنان ( الشاعر هنا ) بين الفن والحياة تظل قائمةً وضروريةً  ، فهذه المسافة هي ساحة الوصل والفصل في آن :
سـأغلق النوافذ جيداً
ولن أفتح الأبواب
سأرتق شقوق الجدران
لأنني أخاف
أن يدخل الهواءُ الذي تتنفسون منه إليّ !
هي ، إذاً ، القطيعة الموصولة ، أو الصلــة المقطوعة ، الجدل الدائم الذي يمنح الحياةَ حركيةً واختلافاً :
وفي نهاية الليل
مع صوت غربان الصباح
أنام دون أن أفكرَ بكِ
لأنني لم أجد الوقتَ الكافي !
لقد مضى زمن العاشق المولّــه ، الـمُدْنَف ( ما معنى المدنَف ؟ ) . نحن أمام مادّةٍ مسيطَـــرٍ عليها . في هذه الأبيات نتابع أسراراً من صنعة لقمان ديركي ، نتابع المباشَــرةَ  ، والتقاطَ اللحظةِ ، والموقفَ النقديّ ، ونتابع كذلك مهارة الاختزال والتكثيف .
القصيدة لدى لقمان معنيةٌ بقضايا كبرى ، حقاً ، لكن الشاعر ليس أسيرَ هذه القضايا . أريد القول إنه يمنح القضايا الكبرى ، في السياسة والوضع البشري ، ملموسيةَ الفنِ وملمسَــه ، فتعود شاخصةً مشخّصةً ، نائيةً بنفسها عن تجريديّـتها القاتلة   ، وهكذا سنقرأ في ديوانه الأخير " شخوص الممالك الزائلة "  شواظاً من ملحمة الأكراد  :
يا إله الميديين حدّقْ جيداً
يا إله الـفُرسِ اسمعني . يا إله المنصّــةِ تعذَّبٍْ قليلاً . تململْ واقرِض أظافرك فلم تبدأ الملهاةُ بعدُ ، ولم يأتِ
سيّـدُها . قاضي محمد… أحفادك ناموا على الهزيمة ، فلأكُنْ ومســرحي حذاءً لك تلبسنا وتتمشى في الجمهورية القتيلة بعد عامٍ ، فلأكن ومسرحي شخوصاً لك تحرِّكنا حتى المشانق … آااخ . أي جبلٍ كان ذلك الجبل ؟ أي شعبٍ كان ذلك المسوِّر حدودَك ؟ قاضي محمد … ماذا فعلتَ حين تقدَّمَ الجنودُ وتراجــعَ البرزانيون إلى جهتهم ؟
*
مياهٌ كثيرةٌ مرت تحت الجسور ، وهي تمــرُّ الآن أيضاً .
لكن من العسير على قصيدة النثر أن تجد تجلياً لها أبهى ممّــا أنجزه لقمان ديركي .
إن قصيدته تستحقّ  العميقَ من التأملِ
والكثيرَ من الاحترام .

                                                                        لندن 27/1/2006
ــــــــــــــــــــــ
* مقدمة أعمال لقمان ديركي الشعرية التي تصدر قريباً في دمشق .