الشِّعرُ مطْلَقاً طباعة


سعدي يوسف
كان المساء يعبق برطوبة العشب المرشوش قبل ساعة أو نحوها، و الحديقة الوسيعة لم تكتظّ بعدُ بأهلها المألوفين. أمّا هذه الطاولة المبكرة فربّما كان لها تاريخٌ متصلٌ بالظهيرة في شارع ابي نواس، حول هذه الطاولة في اتحاد الأدباء جلس ثلاثة: حسب الشيخ جعفر ، شيركو بيكه س، و أنا. كان ذلك في أواسط السبعينات، و هو لقائي الأول مع شيركو.

سألتُه إن كان جاء من السليمانية. اجابني: جئتُ من بغدادي! قلتُ: إنها بلدة ماياكوفسكي....، قال شيركو بضحكته  المكبوحة ذاتّياً: إنها قرية قرب الرمادي!
كان الشاعر منفّياً هناك.
آنها كنت ُ قرأت له ما نُقل إلى العربية من أشعاره، و أخصُّ ما نشرته "الكرمل"مجلة محمود درويش. بعد هذا اللقاء، دارت بنا الدنيا، و ظلّت تدور بنا حتى اليوم، لكن لقاءنا الأول لم يظلّ أول. كنا نلتقي هنا و هناك، وفي العام 1993 ، كما أتذكر، زرته في مكتبه بأربيل"هولير"يوم كان وزيراً للثقافة في حكومة كردستان الموحَّدة، ثم ألتقينا في دمشق التي كان يزورها في حركته المكوكية بين أوربا و كردستان، و كان معنا في مجلة"المدى" التي نشرت إحدى مجموعاته.
بيكه س، لا أحد.
يقول الجواهري العظيم:بلا أحدٍ ايها العبقريّ  و أنت الجميع و أنت الأوحدْ
و القصيدة عن بيكه س الأب.
مع شيركو بيكه س يكون مع الشِّعر مطْلقاً أكثر من كونه مع الشاعر ، ذلك لأن شيركو يحلُّ في الكون و أشيائه كما يحلّ الماء في الحَجر. الحجر كما تراه، و الماء تراه و لا تراه. مشهد الطبيعة يقدمه شيركو مشهدَ طبيعةٍ، و تسأل: أين أنت يا شيركو؟
لقد أختفى الخالق، و اكتفى بالمخلوق!
قال محمود درويش عن بدر شاكر السياب:إنه ابنُ الشعر العربي، و محوِّل مجراه.
و أعتقدُ أن الأمر يصحّ على شيركو، فهو ابن الشعر الكردي ّ، و محوِّلُ مجراه.
كانت حركة التحديث الأهم في القصيدة الكردية، و التي أسهم فيها إلى جانب شيركو شعراء آخرون أمثال عبدالله بيشو، و رفيق صابر، ذات صلةٍ وثيقةٍ بحركة التحديث في الشعر العربي، و ذات استمراريةٍ مرموقةٍ، يمثِّلها شيركو أصدق تمثيلٍ، فهو الأغزرُ نتاجاً، و الأكثر توافُراً على مادة عمله. حتى كأن حياته هي بالشعر وحده و للشعر وحده.
.............
لكنّ علينا، أن نعود قليلاً إلى وراء، كي تتوضّح لنا، أكثرَ، صيرورةُ الشعر الكرديّ الحديث، ففي آنٍ يكاد يكون آنَ بدر شاكر السياب، بدأ عبدالله كوران يرسل الإشارات و الأسئلة الأولى في التطور الممكن فاللاحق للقصيدة الكردية. استطاع كوران، بالرغم من حياة السجن الطويلة، و حياة الضيق الطُّولى، أن يخطو خطوته المغيِّرة، أوّلاً بتحرير القصيدة الكردية من إسار الأغراضالتقليدية، و كذلك في العمل الأكثر مرونةً داخل البحور و الأشكال الكردية.
صحيحٌ أن كوران، بسبب ما ذكرتُه، لم يتمكن من دفع أسئلته إلى اقصاها، إلا أنه قدّدم أطروحة التحرير و التغيير لمن تلَوه...
لم يكن هذا العملُ باليسير، لدى كوران و من تلًوه، فالقصيدةُ الكردية ، بسببٍ من تنافُذ القرونن كانت في مشتبَكٍ عجيب، لكنه طبيعيّ...
فالأشكالُ و البحور متلاطمةُ: كرديةً، و فارسيةً، و تركيةٍ، و عربيةً؛لاو التقليدُ سيدٌ في مجتمعٍ ظلَّ سكونّياً، حتى شرعت راياتُ حركة التحرر القومي الكردية ترتفع، في سماواتٍ معادية عموماٍ، و التناصُّ( الضروري في كل تحوُّلٍ جماليّ) له عوائقه البِنيوية.
العمل المرموق الذي أدّاه شيركو و رفاقه، هو في تأصيل و مواصلة ما بدأه عبدالله كوران، لكن ضمن شروطٍ أفضل و أكثر تفتُّحاً.
إن شروط الستينلت و السبعينات التي بدأ فيها تألُّقُ القصيدة الكردية الراهنة، مختلفةٌ جداٍ عن شروط الأربعينيات؛ و كان لتضافرِ قوى التقدم العراقية أثرٌ في إيجابية هذه الشروط. و من نُعمى  هذا التضافر، تَواصلٌ مثمرٌ بين القصيدة العربية و الكردية، و عملٌ مشتركٌرفي المنابر الثقافية المتاحة بين وقت و آخر.
و الكوفةُ ليست بعيدةً، هذا البعدَ، عن السليمانية....
كنّا معاً، ايها الشاعر
و لسوف نظلّ معاً...
و هكذا أيها الشاعر، و مثل ما قالت الشاعرة الأمريكية الشجاعة أدريان ريتش:
نحن نمضي
لكن كلماتنا باقية
لتغدو مؤولةً عمّا هو أكثرُ مّما قصدناه...
لندن- 17/06/2002

عبدالله كوران
معطف
منذ سنين
تقوقعت جيوب هذا المعطف العتيق،
منطوية على ذكريات منفوضة!
فكلما أمد يداً في جيب،
اشعر أنني المس يد صاحبه السابق,
و تلمس أصابعي أصابع ماض آخر!
فمن يعرف
إنْ بعته انا الآخر،
أية يد ستلمس يدي؟!
و أية أصابع أخرى
ستجد في تلكم الجيوب
أصابع ذكرياتي المتساقطة؟!
الكتابة
لا تكتب السماء المطر،
على الدوام.
لا يكتب المطر الأنهار،
على الدوام.
لا يكتب الماء البساتين
على الدوام
لا يكتب البستان الورود
على الدوام.
و لا انا اكتب الشعر
الحب
تدخل روحي و لست شعاعاً
تدخل جسدي, و لست دماً.
تدخل عيني, و لست لوناً.
تدخل أذني, و لست صوتاً.
إنما..
أنت.
سر الحب.!
من ديوان (ساعات من قصب).