لقاءٌ مع نجيب محفوظ |
ب . ثيرو ترجمة : سعدي يوسف أعودُ إلى ب. ثيرو والقاهرة ، حيث كان رايموند سْتوكْ Raymond Stock كاتبُ سيرة نجيب محفوظ يرافقه . يقول ب. ثيرو : في مايو 1994 ، كان نجيب محفوظ في العناية الفائقة ، بعد أن طعنه في العنق ، متطرفٌ إسلاميٌّ . لم يكن من المتوقّع تعافي محفوظ من الطعنة ، إلاّ أنه تعافى .الجرح اندملَ ، وشُفِيَ من الضرر العصبيّ. بل استأنفَ الكتابةَ . قال رايموند : لديه ما يشبه الصالون. قلت : أريد أن أرى محفوظ ثانيةً . قال: قد يكون ، الليلةَ ، في مكانٍ ما . للقاهرة ثقافةٌ أدبيةٌ عريقة ، فيها جماعات وصالونات . عرف رايموند هاتفيّاً أن محفوظ سيكون ، الليلةَ ، في وقتٍ معيّنٍ ، في فندقٍ ما ، بأحد الأحياءِ قريباً من النيل . وصلْنا المكان آنَ وصولِ محفوظ ، الذي كان بين اثنَين يقودانه ، إلى ردهة في الأعلى ، لأنه كان ضعيفاً ، شبه أعمى ، فاقدَ السمع تقريباً . كان شاحباً ، يعاني من السكّريّ ، لكنه أفضل صحّةً ممّا رأيته ، آخر مرةٍ ،حين كان ممدّداً في المستشفى العسكريّ . يبدو محفوظ مثل رئيس دولة . مرتدياً معطفاً ثقيلاً بسبب بردِ فبراير في ليل القاهرة . قال حين امتدحتُ شفاءه من الطعنة : أنا أُحِسُّ بأني أفضلُ الآن . قبّلَ محفوظ رايموند على الطريقة المصرية ، وبحَثَ عن يدي ليصافحني . ثم جلس على أريكة حمراء فاقعة ، وافتتحَ مجلسَه . كان مجلساً صامتاً ، لأنه لم يقُلْ شيئاً . كانوا يتناوبون على الجلوس جنبَه ، هامسين في أذنه اليسرى . تحدّثوا فرداً فرداً معه ، ودخلوا في نقاشٍ، وقرأوا ممّا كانوا نشروه مؤخراً . أمّا محفوظ فقد ظلّ ، صامتاً ببساطة ، يدخن السجائر ، ويبدو شبيهاً بأبو الهول . ثم جاء الحديث عن قصف الطيران الأميركي ، العراق . هنا ، غمغمَ محفوظ ، جملةً بالعربية ، ثم ضحكَ ، وأشعلَ سجارةً أخرى . رايموند ترجمَ لي : يقول إن الهجوم على العراق ، مثل الهجوم العشوائي في رواية الغريب لكامو. وصلَ أناسٌ جُددٌ : كُتّابٌ من الإسكندرية ، صحافيٌّ فرنسيّ ، سيّدة ألمانيّةٌ ، وكاتبٌ اسمه علي سالم . ثم تحدثَ شخصٌ عن وضع الكتابة في العالَم العربي ، قالَ : قُدِّمت جائزة نوبل إلى نجيب محفوظ ، وهذا اعترافٌ . وعندما نال ماركيز الجائزةَ ، بادرَ كثيرٌ من كُتّاب أميركا اللاتينية إلى تأليف كتُبٍ جديدة ونشرِها . لكنْ ماذا حدثَ في العالَم العربي ؟ أين الأدب العربي ؟ لا شيء! . نجيب محفوظ سمع اسمَه يتردّد ، لكنه لم يُبْدِ اهتماماً . ظل صامتاً . وبصوتٍ أعلى تابع الرجلُ كلامه : نجيب محفوظ نال جائزة نوبل ، للمرة الأولى والأخيرة ، للأدب العربي ، لقد فازَ بها لكل العرب . لكنْ لن ينالَ عربيٌّ آخرُ الجائزةَ . لِمَ لم يحظَ الأدب العربي بالإعتراف ؟ ( صار الرجل ينظر إليّ شزراً الآن ) لأنها مؤامرةٌ من الغرب ! هكذا ، إذاً ، صرتُ أنا ، الغربَ . حسناً إن كان هذا يجعل الناسَ هنا ، يواصلون الكلام . إذ لا شيءَ يكشف عقلية الشخص مثل عقليته وهو غاضبٌ . * غيّرتُ مجرى الحديث إلى النوبة ، وسألته عن رأيه في الرأي القائلِ بأن حضارةً نشأتْ في أعالي النيل ، هي آتيةٌ من شرقيّ إفريقيا ووسطِها ، عبرَ النوبة وكوش ، لإغناءِ مصرَ . قال محفوظ : المصريون حكموا النوبة ، ثم قام النوبيون بدورهم وحكموا مصر . سألته : هل النوبيّون هم الشعب الفرعوني الأصيل ، كما يُدّعى أحياناً ؟ قال محفوظ : الكل يسأل هذا السؤال ، النوبيّون بخاصّة . * حين بدأتُ أمهِّدُ لمغادرتي ، قال لي رايموند إن نجيب محفوظ يسأل عن وجهة سفري . قلتُ : إلى النوبة . قال محفوظ شيئاً بالعربية ، ترجَـمَتُه : النوبة هي أرض الذهب . نُوْبْ معناها الذهب .
لندن 01.12.2015
|
|||
اخر تحديث الأربعاء, 08 يناير/كانون ثان 2020 12:03 |