البَنْدُ وما أدراكَ ما البنْد ! طباعة

سعدي يوسف

كان القرن التاسع عشر في العراق ، وفي أواسطه تحديداً ، زمناً ذا معنى في الحِراك الثقافي ، الإبداعيّ بخاصّة .

وقد أدّى أستاذُنا الجليل ( أستاذي ) محمد مهدي البصير ، مأْثُرةً توثيقيةً ، في كتابه " نهضة العراق الأدبية

في القرن التاسع عشر " .

في أواسط هذا القرن ، وُلِدَ " البند " ، مُرْهِصاً بما أسميناه " الشِعر الحُر " في العراق .

كتبَ ابنُ الخلفة ( عاملُ البِناء ) البندَ .

كان ذلك بين بغداد والحِلّة .

واحتفت الموصلُ بما كتبَ .

آنَها كانت في العراق عاصمتان للثقافة :

الحلّة

الموصل

*

البند ، شكلاً ، يعتمدُ الهزجَ ( مفاعيلُن مفاعيلُن ) وزناً .

البند ، عُمقاً ، يعتمدُ التدويرَ ، والكُتلةَ ،والتدفّقَ .

التطبيقات الأولى للبند ظلّتْ أمينةً على هذه الأسُس الصعبة بالرغم من سذاجةٍ متوهَّمةٍ .

*

اليومَ

أحاولُ أن أردّ الفضلَ لأهله .

والأمرُ العجبُ أنني أحسستُ بحريّةٍ ليس كمثلِها حريّة في محاولَتي .

حِسَب الشيخ جعفر ، في قصيدته المدوّرة ، دفعَ بالبندِ إلى الأقاصي . بل صارت القصيدة المدوّرة

أواسط السبعينيّات هي الشكل السائد ، حتى أن عبد الوهاب البياتي طبّقَ ذلك ، فلم يعُد يكتب

إلاّ المدوّرة  ، مدوّرة حسب الشيخ جعفر .

لكن البند حمّالُ تنويعٍ .

أعني أن البند يمكن له أن يتجلّى ، أبياتاً مدوّرةً .

وليس شرطاً أن يكون مثل مدوّرات حِسَب الشيخ جعفر الباذخة .

رَبِّ يَسِّرْ ولا تُعَسِّرْ !

*

اليومَ

أودُّ أن أُنَبِّه الفِتيانَ الذين يحاولون الشِّعرَ :

إذهبوا إلى الحِلّة ...

اذهبوا إلى البند !

ما أنتم واليابان ؟

 

لندن في 22.09.2019

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مُلحَق

ابنُ الخِلْفة وبَندُه

 

الشيخ محمد بن ابن الخِلفة  الحلي ( توفي بالطاعون الكبير 1247 هـ / 1831م  .

هو الشيخ محمد بن اسماعيل البغدادي الشهير بـ (ابن الخلفة) ، وجاءت خلفته من مهنته ، إذ كان أبوه إسماعيل يسكن بغداد ، ويمتهن حرفة البناء ، والمعلم في البناء في العراق ، يطلقون عليه اسم ( الخلفة ) ،فهو ابن أبيه ، هاجر الأب من بغداد وتوطن الحلة ، وكان شاعرنا طفلاً موهوباً ، بل عبقرياً ، ينظم الشعر بالدارج ( الحسجة) والفصحى ، تهيّأت له الظروف أن يتصل بأعلام شعراء الحلة أمثال احمد النحوي ومحمد رضا النحوي والشيخ شريف بن فلاح، فكان له معهم مساجلات في دار السيد سليمان الكبير و اولاده فعرف من بينهم كعضو له قيمته ومكانته البارزة رغم انه لم يقرأ كتابا ولم يطلع على قواعد اعرابية من نحو وصرف، بل كان يستمد كل ذلك من ذوق خاص به.

اتصل بداود باشا  ومدحه عن طريق اللغة الدارجة فقال فيه بعض القصيد من نوع الركباني ، وفي هذا الفن الذي اختص بعرب البادية كان ابن الخلفة مجيداً فيه وقد أثبت منه قسماً السيد الأمين في كتابه ( معادن الجواهر ) ج 3 ، ووصف  بشعره  ارتكاب ( السكولات ) للفظائع التي أوقعوها في الحلة على عهد حاكمها محمود أغا السفاك سنة 1211 هـ / 1796م .

قال عنه الشيخ علي كاشف الغطاء في ( حصونه المنيعة ) : " كان أديباً شاعراً يعرب الكلام على السليقة ولم يحصل على العربية ليعرف المجاز من الحقيقة وكان يتحرف بالبناء على انه ذو اعراب ويطارح الشعراء في غير كتاب وله شعر في الائمة الاطهار وفي مدح العلماء والاشراف وكانت له اليد الطولى في فن البند توفي في اول الطاعون الكبير عام (1247هـ) في الحلة ونقل الى النجف الاشرف فدفن فيها " .

أطلنا الكلام عن الشاعر العبقري ( ابن الخلفة ) لأنه من رواد ( البند) ، وأروع من نظم في هذا الفن الفريد ، وقد سبق رواد  الشعر الحر ( التفعيلة ) كالسياب والملائكة والبياتي ...بأكثر من مائة وثلاثين عاماً.

ما هو البند وبند ابن الخلفة ؟

البند :

العراق منشأ معظم الفنون الشعرية  لدى أمة العرب من أيام الرجز والراجزين مرورا بأيام المواليا والكان كان والقواما البغدادي ... حتى أن ولد البند في القرن التاسع عشر الميلادي ، وأخيراً الشعر الحر ، والأصح ( شعر التفعيلة ) الذي أبدعه الرواد في منتصف القرن العشرين .

والبند فن عراقي أصيل  في لغة العرب  - وإن كانت لنغماته ، بل اسمه ، جذور فارسية ، وربما تغنى به اليونان والرومان من قبل - انتقل إلى منطقة الخليج ، وشاع فيها ثلاثة قرون كما يذكر الباحث الكبير الأستاذ عبد الكريم الدجيلي في كتابه ( البند في الأدب العربي).

معظم البند تفعيلته الأساسية ( مفاعيلن) ، وهي تفعيلة بحر الهزج ، ولكنها تتكرر دون تقيد بعمود الشعر وهزجه وأشطره  ، كما هو حال شعر التفعيلة الحر  .... وجوازاتها في البند :

- الكف : حذف نون ( مفاعيلُن //ه/ه/ه) فتصبح ( مفاعيلُ //ه/ه/). ولك أن تقول كفّ النون ، وكفها حسن

- الخرم وهو حذف اول متحرك من الوتد المجموع بحيث ( مفاعيلن //ه/ه/ه ) تصبح (فاعيلن /ه/ه/ه).

- الحزم وهو زيادة في اول التفعيلة ولا يعتد بها في المقطع.

-  الحذف : حذف السبب الأخير من ( مفاعيلن //ه/ه/ه)  ، فتصبح (مفاعي //ه/ه ).

والحق أن  البند  يأتي أحياناً بتفعيلة (فاعلاتن) ، وهي تفعيلة بحر الرمل ، فإمّا أن يأتي من ( مفاعيلن) صافياً ، أو من (فاعلاتن)  صافياً ، أو مزدوجاً من تفعيلتي ( مفاعيلن ) و ( فاعلاتن) بنظام ...وفي أحيان نادرة يأتي البند من تفعيلة ( مستفعلن) ، وهي تفعيلة الرجز ...وربما تسألني عن السبب ، أقول لك إن التفعيلات الثلاث ( مفاعيلن ) و( فاعلاتن ) ، و (مستفعلن) هي تفعيلات دائرة المجتلب  بمعنى عند تداخلها في الدائرة تتشكل التفعيلات  دون أن تتحسسها بسهولة.

 

عن كريم مرزة الأسدي

 

من بند ابن الخلفة الحلي

 

ألا يا أيها اللائم في الحب ،

دع اللوم عن الصب ،

فلو كنت ترى الحاجبي الزج ،

فويق الأعين الدعج ،

أو الخد الشقيقي ،

أو الريق الرحيقي ،

أو القد الرشيقي ،

..................

..................

أهل تعلم أم لا ؟

أن للحب لذاذات ،

وقد يعذر لا يعذل

من فيه غراماً وجوى مات ،

فذا مذهب أرباب الكمالات ،

فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات ،

فكم قد هذب الحب بليداً

فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيداً

صه : فما بالك أصبحت غليظ الطبع لا تعرف شوقاً ،

لا ولا تظهر توقا ،

لا ولا شمت بلحظيك سنا البرق اللموعي

إذا أومض من جانب أطلال خليط منك قد بان ،

وقد عرس في سفح ربى البان ،

ولا استنشقت من صوب حماة نفحة الريح ،

ولا هاجك يوم للقاه من جوى وجد وتبريح.

لك العذر على انك لم تحظ من الخل بلثم وعناق ،

وبضمٍّ و التصاق

اخر تحديث الإثنين, 23 شتنبر/أيلول 2019 14:06