1885 نهاية غوردِن الخُرطوم طباعة

أنتوني نَتِنْغْ  Anthony Nutting

ترجمة : سعدي يوسف

في مطلع يناير ، صارت شحّة الطعام في الخرطوم خطيرةً . وباستثناء شيء من الذُرة الخضراء في جزيرة توتي، لم يتبقَّ قمحٌ ، واستُنفِدَ خزينُ البسكويت . الحامية والناسُ لجأوا إلى أكل الحمير والخيل والكلاب  والفئران وكرَب النخل  . انتشر الزُّحارُ ، ولم يعُدْ بمقدور العديد من جنود الحامية أخذ مواقعهم في الخطوط ، بعد أن أنهكهم

الجوعُ والمرضُ . آخرون فرّوا من مواقعهم ابتغاء الطعام . الجثث ملأت الشوارع ،  وليس لأحدٍ القدرة على دفنها . وفي السادس من يناير ، في محاولةٍ يائسةٍ للإقلال من غير  الـمـُــقاتلين ، والحصول على الأغذية الممكنة ، أعلنَ غوردن أن بمقدور مَن يشاؤون ، مغادرة الخرطوم ، وأرسلَ رسالة إلى المهدي يسأله فيها إيواء المغادرين والرأفة بهم .

أمّا في أمّ درمان فقد كان الحالُ أسوأ . فالحامية هناك كانت تتضوّر جوعاً ، وبلا ذخيرة . وحين علِم المهدي بما قاله الفارّون ، قرّر تصعيد هجماته على أمّ درمان تمهيداً لإضعاف الخرطوم الأخير. حاولَ غوردن أن يخفِّفَ حصار الأنصار ، ثلاث مَرّات ،  في بداية يناير ،  إلاّ أن قوّاتِه عجزتْ عن كسر الحصار .

يوماً بعد يوم ،  ومن سطح القصر ، كان غوردن يتبع بناظوره ، الإصاباتِ المميتة التي تلحقُ بالقلعة الصغيرة عبرَ النهر ، حين كان الأنصارُ يقنصون المدافعين ، واحداً بعد آخر ، وحين كانت مدفعيّتهم تدكّ الأسوار بقصفٍ عنيفٍ ، وهو عاجزٌ عن مواجهته بسبب  غياب بواخره.  في الخامس من يناير  تلقّى إشارة من الآمر في أمّ درمان ، فرج الله ،  تفيد بأن رجاله بلا طعام وذخيرة . وهكذا ، وافق على استسلام الحامية بقلبٍ مثقَلٍ.

كان لسقوط أمّ درمان الوقعُ الذي كان يريده المهدي في الخرطوم .

إذ اعتُبِرَ الأمرُ ، كما أراد المهديّ ، تمهيداً لسقوط العاصمة ، وهكذا انهارت معنويات القوّات ، وبدأت هجرة السكّان . كما كانت للمهدي فائدة كبرى في وضع مدفعيّته على طول أسوار أمّ درمان ليزيد من قوّة ضغط مدفعيّته على الخرطوم .

هكذا ،  صار بمقدوره تركيز عديده ،  العشرين ألفاً ، للإنقضاض النهائيّ .

تحت حماية المدفعية ، اندفعت تعزيزات الأنصار ، عبر النيل الأبيض، في الكلاكلة، لتنضمّ إلى معسكر وَدّ نجومي .  ومثل ما عجزَ غوردِن عن منع مدفعية المهدي من قصف أمّ درمان حتى الاستسلام ، عجزَ عن وقف تحشُّد جيوش الأنصار خلف الحدود الجنوبية لدفاعات الخرطوم .

من سطح القصر ، كان بمقدوره أن يرى الحركة المستمرة للقوّات ، عبر النهر ، والتمركز الدائب للقوّات على الجانب الجنوبيّ للمدينة . لكنه ، بدون بواخره ، عاجزٌ عن إيقاف حشد العدوّ القادم لتدميره.

لكن المهدي لم يهاجِم ، حتى الآن .

وبدلاً من ذلك ، بعثَ إلى غوردِن واحدةً من أشهر رسائله ، رجاه فيها أن يستسلم ، ووعده بإطلاق سراحه ، إن استسلَمَ فقط .

تبدأ الرسالة هكذا :

إلى غوردن باشا حفظه الله

وبعد أن يمتدح خصال غوردن يمضي ليقول :

أكتبُ إليك ، لتعود إلى بلدك ...  أُعِيدُ إليك ما قاله الله . لا تلْقِيَنّ بأنفسكم في التهلكة . الله رؤوفٌ رحيم . بلَغَني أن الإنجليز يريدون دفع فِديةٍ عنك وحدكَ ، عشرين ألفاً .  إنْ انضممتَ إلينا ستكون مبارَكاً ، لكن إن أردتَ الإلتحاق بالإنجليز فسوف نرسلك إليهم بدون  قرشٍ واحدٍ " .

هذه الرسالة المعروفة قليلاً ، تبيِّنُ كم كان المهدي مستعدّاً ، للحفاظ على غوردن ،  والإستيلاء على الخرطوم بدون إراقة دماء.

لكن هذا النداء لم يحظ باستجابةٍ .

كان غوردن يريد أن يجعل من نفسه شهيداً .

وهكذا استبعدَ هذا العرضَ السخيّ ، باحتقار .

لقد سبقَ السيفُ العذْلَ. لكنْ  حتى قبل أن  يُنقَل رفضُ غوردن الإستسلامَ إلى المهدي ، كان أمرٌ حدثَ ، وكان مقدّراً لذلك أن يغيِّر مجرى الأحداث ، ويُشرذِمَ جيوش الأنصار ، مرتدّةً إلى كردفان . في العشرين من يناير علِمَ معسكرُ المهدي بهزيمة قوّة الأنصار ، في أبو طليح ، هذه القوّة التي كانت أُرسِلتْ  لإزعاج طابور النجدة الذي يقوده ستيوارت. انتشرَ النبأُ ، كالنار في الهشيم ، وتطلّعَ غوردن من سطح قصره ، يمسحُ الأفقَ خلف منحنى النيل . بغتةً رأى المشهدَ غيرَ المألوف لنسوة الأنصار يندبْنَ قتلاهنّ ويولولْنَ.

وبعد فترة وجيزة ، وردّاً على استفساراته ، بلغَه ، عبر جاسوسٍ له ، في معسكر المهدي ،  خبرُ أن البريطانيّين حقّقوا نصراً حاسماً في طريقهم إلى الخرطوم .

أسرعَ غوردن إلى إعلان الأنباء السعيدة ، وعمَّ الفرحُ المدينةَ ،  فاستشار المهدي خلفاءه ، وهو في حالة فزعٍ حتى قيلَ إنه ارتأى من الأصلح له القول بأن الله أوصاه بالتراجع عن الخرطوم والعودة إلى كردفان ، قبل وصول القوّة البريطانية وتحقيق انتصارٍ آخر كالذي حقّقتْه في أبوطليح .

يقالُ إن ضبّاط المهدي ، باستثناء واحدٍ منهم ، وافقوا على هذا . هذا الرجل هو محمد عبد الكريم ، عمّ المهدي ، فقد قال: إنْ كان إنجليزيٌّ واحدٌ هو غوردن قد سبّبَ لنا هذا العناءَ ،  فماذا سيكون حالُنا  لو أن جيش قومه التحقَ بغوردن ؟

الحكمة والإقدامُ  ، في الهجوم  لا في التراجُع ، قبل وصول البريطانيّين .

التقاريرُ ، كلُّها ، القادمة من الخرطوم ، عبر الجواسيس والفارّين ، تشير إلى أن المدينة في مجاعة ، وإلى أن المدافعين عنها هم أضعفُ من إبداء أي مقاومة . بالإضافة إلى هذا ، أفادَ أحدُ الفارِّين أن هناك نقطة ضعيفة جداً في الدفاعات ،  إذ أن انخفاض الماء في النيل الأبيض ، خلّفَ شريطاً من أرضٍ موحلةٍ يمكن لها أن تكون جسراً  على الخندق الدفاعيّ في الجانب الجنوبي للبلدة .

بهذه الحجج القويّة ، عادت الثقة إلى مستشاري المهدي ،  وعندما رأوا أن البريطانيّين لم يتعجّلوا مواصلة انتصارهم ، تقبّلَ الخلفاءُ نصيحة عبد الكريم .

صدرَ الأمرُ بالهجوم الشامل على الخرطوم في الساعات الأولى من السادس والعشرين يناير . وفي عشيّة الهجوم عبرَ المهدي النيلَ الأبيضَ ، في سِرّيّةٍ وصمتٍ ،  كي لا ينتبه  الـمُـدافعون إلى أي جلَبةٍ من هتافٍ يطْلقُه رجالُه . جمعَ ضبّاطَه ، وأعطاهم تعليمات الغد . باسم رسول الله ، عليهم أن يأخذوا الخرطوم ، ويأخذوا غنائمَها إلى بيت مال الأنصار .

لكن المهدي أصرَّ على أن يؤخَذَ غوردن حيّاً . إذ كان ، على أي حال ، شخصاً طيّباً ، عيبُه الوحيد أنه ليس مسلماً .

وأعلنَ :  مَنْ آذاه فليس منّا .

( أكّدَ هذا ، للمؤلِّف ، د .تجاني الماحي ، عضو مجلس الرئاسة السوداني ، في 1965 ، الذي وصفت جدّتُه المقيمة في الخرطوم  ايّامَ الحصار ، غوردن ،  بأنه رجلٌ لو كان مسْلماً لدخلَ الجنّةَ بالتأكيد. )

امّا  " التُّرْكُ "  ، الحامية المصرية ،  التي كفرتْ ، واغتصبت السودان ، ونهبتْ خيراتِه ، فلن ينالوا أي رحمةٍ.

وهكذا ، عاد المهدي إلى أم درمان ، ينتظرُ المعركة القادمة .

آنذاك ،  في الخرطوم ، وفي غياب أيّ نبأ عن طابور نجدةٍ يتقدّم في أعالي النيل ، حلَّ الإمتعاضُ محلّ  الإبتهاج ، بصدد أخبار  أبو كِلْية . وعندما أرسل المهدي مبعوثيه  إلى البلدة ،  ليقولوا للناس إن المنتصرين في أبو كلية، كانوا  الأنصارَ، وإن الإنجليز لفّقوا الخبر ليرفعوا من معنوية المقاوِمين، صدّق الناسُ هذا الكلامَ  . حتى فرج باشا، آمرُ الحامية، أخذ يشكّ في أن الأنصار قد هُزِموا ، وفي الثالث والعشرين من يناير ،  قبل يومين من زيارة المهدي قوّاته،سرّاً ، نصحَ غوردن بتسليم البلدة ، لأن الحامية كانت أضعف من اتخاذ وقفةٍ أخيرةٍ . لكن غوردن رفض ، غاضباً ، فكرة الاستسلام ، وبينما كان يتابع تفتيشه اليومي لدفاعات الخرطوم ،  حثّ الحامية المتضوِّرة ، على الصمود في وقفةٍ أخيرةٍ ،  للحفاظ على البلدة ،  وحثّ السكّان القادرين على حمل السلاح كي يساعدوا في حماية الأسوار. قال مُصِرّاً :" يجب أن يأتوا ، ولسوف يأتون ،  غداً ، أو بعد غد " . وفي الخامس والعشرين من يناير صعد إلى سطح قصره ، في ما أمسى آخر مرّة ،  ليمسح الأفق عن إشارةٍ لبواخره . كان ذلك بلا جدوى ،  إذ كانت الباخرة " بوردين " مع ولسون وعشرين من ذوي السترات الحُمر ، و200 من الجنود السود ، كانت جانحةً على صخرة في الشلالات السادسة ،  على مبعدة ستين ميلاً عن الخرطوم ، وليس بالإمكان إعادة تعويمها  إلاّ بعد  أربع وعشرين ساعةً. أمّا بقيّة قوّة  ولسلي ، فقد كان معْظَم الطابور في المتَمّة ،  والبقيّة ، خمسة آلاف من مجموع سبعة آلاف فقد كانوا ليسوا أقرب من أبو حامد ،  150 ميلاً على الجانب الخطأ من بربر.

في اليوم نفسه ،  دعا غوردن مجلس الأعيان إلى القصر. وثانيةً ، دار الحديث عن الاستسلام ، والشكوك في أخبار الانتصار البريطاني في أبو كِلْية. لكنْ بعد أن عبّرَ الشكّاكون عن وجهة نظرهم ،  أعلن غوردن عن معارضته الصارمة  لتسليم الخرطوم. قوّة النجدة البريطانية هي في طريقها. وسوف تصل خلال أربع وعشرين ساعة. لِمَ يستسلم ، إذاً ، ويقدِّم للمهديّ نصراً يمكنُ تفاديه  بمقاومة يومٍ واحدٍ ؟ كانت الكلمات شجاعةً ومتحدِّيةً ، لكنه كان في أعماقه، يشكّ بها . وحين تأجّلَ المجلس ، وانفضّ الأعيانُ ، توجّه إلى بورديني بَيك ، وهو تاجرٌ من الخرطوم ، وصديقٌ صدوقٌ . " ماذا بمقدوري أن أقول أكثرَ ؟ لم يعُدْ بمقدور الناس أن يصدِّقوني. أخبرتُهم مراراً وتكراراً أن العونَ قادمٌ . لكن العون لم يأتِ . وهكذا رأوا أنني كنت كاذباً . لن أستطيع أن أفعل شيئاً إنْ  أخفقَ وعدي الأخيرُ . اذهبْ واجمعْ مَن تستطيع ، لوقفةٍ أخيرةٍ . اتركْني الآن لأدخِّن هذه السجائر " .

في الثالثة والنصف ، من الصباح التالي، أي في 26 يناير ، زحفت مدفعية الأنصار ، بقيادة ودّ النجومي ، إلى أمام ، نحو الجسر الموحل ، الذي سيحملُ الهجومَ الرئيس على المدينة. وبالرغم من القمر المنير،  لم يرَ المدافعون على الأسوار،  أيّ علامة على المدفعية المتقدمة . كان المدافعون جدّ منهَكين من الجوع فلم يتبيّنوا  الأمر ، لأنهم لم يكونوا يقِظين .  كما أن كثيرين من القوّات تركوا مواقعهم إلى البلدة بحثاً عن الطعام .

وهكذا لم يُطْلَقْ إنذارٌ عامٌّ ، إلاّ حين صار المهاجِمون على مبعدة ياردات قليلة من هدفهم ،  تحت غطاء كثيف من المدفعية . آنذاك فات الوقتُ على المدافِعين ليُحصِّنوا  النقاط الضعيفة على الأسوار ،  وفي دقائقَ اندفع مشاةُ الأنصار عبرَ الخندق ، ليكونوا في الخرطوم . اندفعوا يميناً ،  ليهاجموا المدافعين من الخلف ، ثم شقّوا طريقهم ، على امتداد الخطوط ،  واستولوا على بوابة المسلَّميّة في الزاوية الجنوبية الغربية  للدفاعات. ولبُرهةٍ قصيرةٍ ، تحدّت البوابةُ الرئيسةُ الأخرى ،  مقابل قرية بوري ، إلى الغرب ، المهاجِمينَ . لكنْ  حين اندفع الأنصارُ عبر بوابة المسلَّميّة ،  انهارَ الجنودُ عند بوابة بوري ،  وهربوا ابتغاء السلامة .

في الساعة الرابعة ، تمَّ الإستيلاءُ على الخرطوم ، واكتظّت الشوارعُ بالأنصار ، مُطْلِقين صيحاتِهم ، مندفعين وراءَ المدافعين الهاربين ، يقتلونهم بالرصاص والرماح .

ثم تعالت الصيحةُ : " إلى القصر "  . وفي دقائقَ معدوداتٍ ، اندفعت مجموعة من الثوّار في حديقة القصر ، متغلّبين على حرس البوّابة ، وبعد أن بلغوا السلّم الخارجي المؤدي إلى مسكن غوردِن ، فوجئوا بظهور غوردن نفسه ، واقفاً بكل هدوءٍ ، في أعلى السلّم ،  وعلى وجهه علائمُ احتقارٍ . كان  يرتدي بِزّةً بيضاءَ ، ويعتمر طربوشاً ، ويده اليسرى على سيفه المغمَد المتدلي من حزام السيف . كـــان يبدو ( بالرغم من المسدس في يمينه ) ، كأنه يتهيّأ لاستعراضٍ ، وقد أفسدَ استعدادَه ،  أولادُ شوارعَ صخّابون. وفي الدقيقة الأخيرة المميتة في حياته ، لم تبدرْ منه أدنى بادرةٍ للدفاع عن نفسه ، سواء بمسدّسه أو بسيفه .

وفي خِضَمّ اللحظة ، نُسِيَ توجيهُ المهديّ بأن يؤسَرَ غوردن حيّاً . صاح قائد مجموعة الأنصار : " أيها الملعون ، حانت ساعتُك ! " ،  ثم أرسلَ رمحه ، في صدر غوردن. وعندما دار هذا على نفسه ، من هول الطعنة ، اندفع آخرون إلى أعلى السُّلّم ، ليطعنوا جسد غوردن برماحهم . وحسب العادة ، قطِعَ رأسه ، وأُخِذَ إلى المهديّ ، الذي لم يصدِّقْ  أن أوامره قد عُصِيَتْ . أرسلَ المهديُّ الرأس المقطوع إلى سلاتِنْ للتأكُّد.

وقد وصفَ سلاتِنْ ، في ما بَعدُ ، اللحظة الشنيعةَ التي جيءَ  فيها  ، إليه ، برأس آمرِه السابق :

" اندفعَ الدمُ في رأسي،  وكاد نبضُ قلبي  يتوقّف. لكني ضبطتُ نفسي ضبطاً شديداً ،  وحدّقتُ صامتاً في المرأى الشنيع . كانت عيناه الزرقاوان نصفَ مفتوحتَين ، الفم  طبيعيٌّ تماماً . شَعر رأسه وسالفَيه أبيض أو يكاد . قال  "شَطّا "  وهو يمسك بالرأس أمامي :  أليس هذا رأس عمِّكَ الكافر ؟

قلتُ بمنتهى الهدوء :  ما ذا في الأمر ؟ جنديٌّ شجاعٌ سقط في موقعه . سعيدٌ هذا الذي سقط . لقد انتهت عذاباتُه .

لقد انتهت عذاباتُ غوردِن، وقد  بلغَ ، أخيراً ، الخلاصَ من الحياة الدنيا ، هذا الخلاصَ الذي تاقَ إليه طويلاً .

* تمّت الترجمة في لندن بتاريخ  18.02.2019

اخر تحديث الخميس, 21 فبراير/شباط 2019 11:00