مدينةٌ طليقةُ الأنفاس : مكناس طباعة

سعدي يوسف

2006 / 4 / 22

أترجِـمُ ما وردَ في " الموسوعة البريطانية " عن مكناس :

كانت واحدةً من المدن الإمبراطورية الأربع في المغرب . أسستها في القرن العاشر [ الميلادي ] قبيلةٌ بربريةٌ[ أمازيغية ] . كانت في الأصل مجموعة قرىً وسطَ غياض الزيتون ، وصارت عاصمة المغرب سنة 1673

في عهد مولاي اسماعيل ، الذي بنى قصوراً ومساجدَ جعلت مكناسَ تسمّـى فرساي المغرب . تدهورت بعد وفاته ، واحتلّـها الفرنسيون سنة 1911 . وهي اليوم مركزٌ تجاريّ للمنتجات الزراعية ، والمطرّزات الرفيعةوالزرابي . السكان سنة1994 : أربعمائة وتسعة وخمسون ألفاً وتسعمائة وثمانيةٌ وخمسون . تقع شماليّ وسط المغرب .

*

بعد استكمال " ربيع مراكش" 2006 ، ورحيل بر نار نويل وإيزابلاّ إلى منزلهما الريفيّ بفرنسا ، واختفاء الآخرين بلا وداع أو سلام ، باستثناء محمد بنيس الذي دعاني أنا وأندريا إلى زيارته في منزله بالمحمدية ، بين الرباط والدار البيضاء ، غير بعيدٍ عن شاطيء البحر .

أقولُ بعد استكمال قراءات مراكش ، انتقلت بالقطار إلى مكناس ، ملبياً دعوةً من المعهد الفرنسيّ ، وأخرى من كلية الآداب بجامعة مكناس ، كما أن اتحاد كتّـاب المغرب ( فرع مكناس ) أجرى اتصالاً تمهيدياً معي حول لقاءٍ ما .

في محطة قطار مكناس ، كان في استقبالنا ، أنا وأندريا ، د. سعيدي المولودي من كلية الآداب ، ومهدي أمينُ مكتبةِ المعهد الفرنسي ، وصديقٌ ثالثٌ . ( لا بدّ لي من الإشارة إلى أن د. سعيدي المولودي أنفقَ من سِـنِـيّ حياته سبعاً ، قلّـبَ فيها حياتي وشعري تقليباً ، حتى صار أعلمَ بشعري مني ! ، وقد أثمرَ جهدُهُ المرموقُ مجلّــدَينِ من عملٍ نقديّ ) .

في الطريق من المحطة إلى الفندق ، وكان المساء في أوائله ، رأيت الشابّات والشبّـان منطلقين في الشوارع والحدائق وهو مشهدٌ صرنا نفتقده في كثيرٍ من المدن العربية ، كما لمحتُ ، للمرة الأولى ، أسوار المدينة العتيقة ، عاصمة مولاي اسماعيل … شمس الغروب على الأسوار ، والمنارة الراسخة تشقّ طريقها الدائمة نحو السماء . ما ذا أقول؟

كلّــما جئتُ واحدةً من عواصمنا العربيةِ صلَّيتُ :

ها أنتِ ذي !

أنتِ ما زلتِ حاضرةً ( مثلَما كنتِ في الكتبِ الجِلْـدِ مخطوطةً

أو مُـرَنّـحـةً في الأغاني … )

السلامُ عليكِ …

السلامُ على من رأى في خرائطِكِ الـحُلـمَ

واستافَ في خلْـجةٍ من هوائكِ والماءِ ذاكَ الشــميمَ

الـمُـضَـوَّعَ من جـنّـةٍ ؛

*

ننزل في فندق IBIS ( طائر أبو منجل ) القائم على هضبةٍ تشـرف على المدينة العتيقة ، الفندق الذي يواجه مطعماً من سلسلة الماكدونالد لا يرتاده أحدٌ .

بمقدور المرء ( كما فعلنا ) أن يذهب ماشياً إلى المدينة العتيقة ، وأن يرقب الحياة تستيقظ ، والتلامذة يمضون إلى المدارس ، والعربات تأتي بالنعناع إلى المقاهي . سيكون شاي الصباح مفعماً بخير الطبيعة الأولى.

الناس في مكناس ، لم تستشـرِ في نفوسهم ( بعدُ ؟ ) حُـمّى السياحة ، كما هي الحالُ في مراكش . حتى السائحون يأتون إلى مكناس عابرين ، إلى الأطلس أو الصحراء … إلخ ، يبيتون ليلةً أو اثنتين ويغادرون .

الرومان كانوا هنا أيضاً . مدينةٌ رومانية كاملة تقع على مبعدة حوالي أربعين كيلومتراً عن مكناس . أخذنا إلى" فيلوبوليس" – أظنّ هذا اسمها – د. سعيدي الولودي ، وحسن مخافي . صرحٌ رومانيّ كامل وموزاييك عجيب .

الموزاييك مكشوف لعناصر الطبيعة ، وقد يتآكل مع الزمن إن لم يُحفَظ تحت سقف زجاجٍ أو يبلاستيك شفّاف .

في الموزاييك كائنات بحرية ، وفيل ، وآلهة ، أبوللو وباخوس . وعلى ذِكر الأخير يمكن القول بأن أهل مكناس يتباهَونَ بأن لديهم أكبر مستودعٍ للخمور في العالم !

هذا من عهد الرومان ، يقولون …

لم ينقطع إنتاج الخمور في مدينتهم ، على مَــرّ العصور .

الناس على حقّ . فالكروم تحتلّ مساحاتٍ خرافيةً ، والنبيذ غنيٌّ ، ذو مذاقٍ نادرٍ . Cabernet Sauvignon من أفضل

ما يكون .

*

كان لي لقاءٌ مع طلبة وطالبات كلية الآداب .

القاعة ممتلئة.

كان الاستماع ممتازاً ، وقد جرى نقاشٌ مفتوحٌ بعد القراءة . كانت الأسئلة ممتازة .

ثم كان لقاءٌ آخر في المعهد الفرنسي . قُرِئتْ لي أيضاً نصوصٌ بالفرنسية . وقد حضر الأمسيةَ والي مكناس السيد حسن أوريد . عرفتُ في ما بعدُ أنها المرة الأولى التي يحضر فيها فعاليةً من هذا النوع .

من المفيد أن أذكر أن تسيير شؤون الولاية من مسؤولية شخصيّتينِ : عُمدة المدينة المنتخب ، والوالي الذي يمثل ملك البلاد .

كان لي لقاءٌ آخر مع السيد حسن أوريد ، حين كنتُ ضيفاً على مائدته في دارٍ بالمدينة القديمة اتُّخِذتْ مطعماً .

جرى حديثٌ لطيف عن الأدب ، وكان الرجل يستعيد أبياتاً من بدر شاكر السياب وسواه . امتدت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل .

أظنّ أن أهل مكناس محظوظون بالوالي الشابّ ، المتشــرِّبِ بروح القرن الحادي والعشرين . إنه ضمانةٌ لمدينتهم كي تظلّ طليقة الأنفاس .

اللقاء الشعريّ الثالث كان في المركز الثقافي ، وقد نظّـمه اتحاد كتّاب المغرب ( فرع مكناس ) . قدّم الأمسية وقدّمني كلٌّ من د. أحمد فرشوخ مسؤول الفرع ، وحسن مخافي . كانت الأمسية ذات جوٍ حميم مع مسحةٍ من المسرح والإيماء .

*

لم يتسنَّ لي وقتٌ كافٍ لمعاينة الكثير ممّـا تضمّـه عاصمةٌ عريقةٌ هي مكناس . كان عليّ ، مثلاً ، أن أتقرّى بوابة المنصور كما تقرّى البحتريّ النحت البارز في أنطاكية :

وإذا ما رأيتَ صورةَ أنطاكيةَ ارتعتَ بين رومٍ وفُرْسِ

وكان عليّ أن أدخل قبّــة السفراء حيث كان مولاي اسماعيل يستقبل المبعوثين الدبلوماسيين .

ومن هناك أنحدر إلى سجنه الرهيب !

وكان عليّ أن استمتع بالدخول إلى أكبر قبوٍ للنبيذ في العالم …

وكان عليّ أن أدقِّقَ في ما يفعله الحِــرفيّــون من جَمالٍ .

لكنّ مكناس ليست بالصغيرةِ …

مكناس تحتلُّ مساحة الولاية الكبرى في المملكة المغربية ، حتى لتبلغ الحدود الجزائرية !

تصدر فيها اثنتا عشرة مجلة .

وفي سنة 2000 صدر فيها حوالي خمسين كتاباً .

آخر إصدارات مكناس : تاريخ الجنون في القرون الوسطى ـ ميشيل فوكو !

وفي الأطلال الرومانية يقام مهرجانٌ سنويّ عالمـيّ للموسيقى …

 

لندن 21/4/2006

________________________________________

اخر تحديث السبت, 08 دجنبر/كانون أول 2018 19:32