يا طَير ... يا طايِر ! |
سعدي يوسف كلَّ صباحٍ ، أهبِطُ السُّلَّمَ ، وأفتحُ بابَ المنزلِ ، ثم أخرجُ لأتفقّدَ " بيتَ الطيرِ " ، في حديقتي ، أُزَوِّدُه حَبّاً وكُرَيّاتِ شحمٍ ، وأذودُ عنه السناجبَ الشرِهة . هاهوذا دأبي . أفتتحُ يومي في هذه الدنيا ، مع الطير . أكان امرؤ القيس يفعلُ الأمرَ ذاتَه ؟ وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتها ... وأنا أهبِطُ السلّمَ ، أحَيّي بتحية الصباح ، الرسّامَ بروغيل الأكبر 1525-1569 ، عبرَ لوحته الشهيرة " سقوط إيكاروس " التي أعَلِّقُ نسخةً منها في بيت السُّلّمِ . الطيرُ حُرٌّ . وفكرةُ الطيَران ارتبطتْ منذ بدايتها الأسطوريّة بفكرة الحرّيّة . يقولُ الأغارقةُ : كان في كْرِيت ( جزيرة كريت ) ملكٌ اسمُه مينوس ، وكان في تلك الجزيرة وحشٌ مدَلّلٌ عند الملك يدعى المينوتور . هذا المينوتور لا يلذُّ له طعامٌ إلاّ إذا كان من لحم بشرٍ سَويٍّ ! ضجّ الناسُ ، ودعَوا الملكَ أن يقتلَ وحشَه ، لكن الملكَ رفضَ ذلك ، وبدلاً من القتل كلّفَ بَنّاءً شهيراً هو ديدالوس ، ببناءِ المتاهة ( اللابرينث ) التي يظلُّ المينوتور يدور فيها إلى ما لا نهاية . بعد أن أنهى ديدالوس العملَ ، قرّرَ الملكُ أن يسجنَ البَنّاءَ ، وابنَه إيكاروس ، في المتاهةِ ، كي لا ينكشفَ السِّرُّ . كان يريدُ أن يدفنَهما حَيّينِ ، مهَدّدَينِ بالموتِ بين أنياب المينوتور . هكذا حدث مع البنّاء سِنِمّار الذي شيّدَ قصر النعمان بنِ المنذر . وإن اختلَفَ الأمرُ . النعمان بن المنذر قتَلَ سِنِمّار ، كي لا يعرفَ أحدٌ مسالكَ القصرِ ، من مداخلَ ومَخارجَ . من هنا جاء المثَلُ : جزاءُ سِنِمّار . * نعود إلى الجزيرة الإغريقيّةِ : بالرغمِ من تشديد الملكِ مينوس ، الحراسةَ ، على اللابرينث ، استطاعَ ديدالوس مع ابنه إيكاروس ، الإفلاتَ من السجنِ ، واختبأ الإثنان في مُلتَفٍّ من القصباءِ والدوحِ ، على شاطيءٍ ناءٍ . كان بمقدورِهما البقاءُ طويلاً في هذا المنتأى . لكنّ ديدالوس كان يريدُ الإفلاتَ من طُغيان مينوس ، والإنطلاقَ حُرّاً . صعّدَ نظره إلى السماء . كانت النوارسُ تطيرُ حُرّةً ، وهي تتلاعبُ مع الريح . قال ديدالوس لابنه : سنطير كالطير ! * هكذا صنعا جناحَينِ لكلٍّ منهما . قال ديدالوس لابنه إيكاروس : لا تُصَعِّدْ كثيراً فتقترب من الشمس . الشمع سيذوب ... * طار الإثنان . كان إيكاروس مبتهجاً . البحرُ صافٍ . والشمس ساطعةٌ . والفؤادُ منشرحٌ . ارتفعَ إيكاروس وارتفعَ . كانت فُتُوّتُه تثملُ بالحرّيّةِ . بغتةً رأى ريشةً تسقطُ ، ثم أخرى ... لقد ذاب الشمعُ ! ديدالوس كان يرى ابنه يسقط ، لكنه عاجزٌ عن فِعلِ شيء . * لحظة سقوط إيكاروس ، خلّدَها بروغيل الأكبر . * قد كنتُ قلتُ إن فكرةَ الطيَران مرتبطةٌ منذ بدايتِها بفكرةِ الحريّةِ . وفي بلاد الإغريقِ تطبيقٌ فَذٌّ للأمر : أكاديميةُ الطيَران اليونانيّة تحمل اسمَ : إيكاروس !
لندن 14.07.2016
|
|||
اخر تحديث الإثنين, 13 غشت/آب 2018 18:05 |