عن المرء وما يرسُم في حياته ويترسّمُ |
من سعدي يوسف يقول بورخيس : " يبدأ المرءُ في رسْمِ العالَم . ومع مَرِّ السنين ، يملأُ المساحةَ الفارغةَ ، بالأقاليم ، والممالكِ ، والجبال ، والخلجان ، والسفن ، والجُزُر، والأسماكِ ، والغُرَف، والآلاتِ ، والنجومِ ، والخيل ، والأفراد . ويكتشف ، قبل وفاته بقليلٍ ، أن تلك المتاهةَ الصّبورَ من الخطوط ، تحدِّدُ مَعالمَ وجهِهِ هو " . لكنْ ، كيف يبدأ المرءُ ؟ أستفيدُ هنا ، من الرحّالة الشهير، المتوفّى قبل سنين ليست بعيدة : ب. ثيرو ، الذي قد كان زار مصر في مستهلّ رحلته " سِفارُ النجم الأسوَد" والتقى نجيب محفوظ . يقول ب. ثيرو : مَن ليسوا رحّالة ، غالباًما يحذِّرون الرحّالةَ من الأخطار ، والرحّالةُ يستبعدُ هذه المخاوف . لكنّ افتراضَ حُسْنِ الضيافة غير صحيح ، شأنه شأن افتراض الخطَر . عليك أن تجدَ الأمورَ بنفسكَ . اقفِزْ – اذهبْ أبعدَ ما تستطيع. حاوِلْ البقاءَ خارجَ الاتّصال. كُنْ غريباً في أرضٍ غريبةٍ . تَحَلَّ بالتواضُع . تعَلَّم اللغةَ . أنصِتْ إلى ما يقولُ الناسُ. لم أبدأْ في اكتشاف نفسي ومعرفةِ ما أريدُ ، إلاّ حين صرتُ رحّالةً وحيداً . إن سألَني سائلٌ عمّا عليه أن يفعل ليكون كاتباً ، فلن أشيرَ إلى الكتُب في الغالب. أنا أفترضُ في السائل حُبّاً للكلمة المكتوبة ، والعزلةِ ، واحتقاراً للمال_ هكذا سأقول : " تريد أن تكون كاتباً ؟ عليك أن تهجرَ موئلَكَ أوّلاً !" . * أعودُ إلى نفسي . أعودُ إلى سيرتي التي أراها ، إذْ أُراجعُها ، سيرةً غريبةً في ما اتّصلَ بالمغادَرات ، أعني أنها ذاتُ مغادراتٍ متّصلةٍ. هذا يعني في ما يعني أن المغادَرة هي الأصل ، والإقامة هي المؤقّت. أحياناً يحلو لي أن أعودَ إلى زمنٍ سالفٍ ، لأتأكّدَ من أماكنَ كنتُ فيها ، زائراً عابراً ، أو مقيماً على مضضٍ أو على غير مضضٍ ، فأجِدُني شِبه ضائعٍ ... آنَها ، أستنجدُ بالأطلسِ ، أطلسِ العالَمِ ، لأتتبّعَ ما سلَفَ من خُطاي ! منذ 1957 وأنا مترحِّلٌ : كأنّما هو في حِلٍّ ومرتحَلٍ مكلّفٌ بفضاءِ الله يذرعُهُ ابن زرَيق البغدادي الآنَ ، أنا في تورنتو ، الحاضرة الكنديّة التي هي في أحضان البحَيرة الهائلة ، بُحيرة أونتاريو. وبعد ثلاثة شهور سأكون في لندن العاصمة الإمبراطوريّة ، وقبلَها كنتُ في " الأقصر " متنقِّلاً بين ضفّتي النهر العظيم: النيل . في الليل تهدهدُني أحلامٌ جديدة : قد كنت في مصر الإفريقيّة ... إذاً لِمَ لا أمضي جنوباً : إلى السودان ، وإلى أبعدَ من السودان .أليستْ شلاّلاتُ فكتوريا في زمبابوِي ؟ هنا ، على الجانب الكنديّ ، رأيت شلاّلات نياغارا . يقال إن شلاّلات فكتوريا أكثرُ جمالاً ومهابةً وجلالاً . أعودُ إلى ب. ثيرو ، وإلى نصيحته : اذهَبْ أبعدَ ما تستطيع ! * اغترِبْ تتجدّدْ ! هذا ما قاله الشاعر العربيّ قبل قرون : وطولُ مُقامِ المرءِ في الأرضِ مُخْلِقٌ لديباجتَيه ، فاغترِبْ تتجدَّدِ وفي مراتبِ الصوفيّة الثلاث الأساسِ ، مَرْتبةٌ أولى ، هي : التخَلِّي. كما أن الهجرةَ ، مفهوماً وفِعلاً ، أسّسَتْ للإسلامِ دِيناً . * " وفي الأرض مَنأىً للكريم عن الأذى " * في سيرتي ، أريدُ أن أشيرَ إلى الطبيعةِ غيرِ الـمُـتْرَفةِ لتنقّلي . مغادَراتي ، في مُعْظمِها ، كانت إجباريّةً . أي أنني كنتُ مرْغَماً على المغادَرة ، إمّا لأسبابٍ تتعلّقُ بالسلامة الشخصية ، أو لضرورات تتعلّقُ بالحفاظ على سلامة الموقف . ما كنتُ ، في أيّ مُقامٍ لي ، من أرض الله الواسعةِ ، طامعاً في مالٍ ، أو طامحاً إلى منصبٍ . * أمّا فضلُ المغادَرةِ الذي ما مثله فضلٌ فهو باختصارٍ مؤلٍمٍ : بقائي على قيد الحياة ! لو كنتُ في بلاد ما بين النهرَين ، لكنتُ تحت التراب ، منذ عقودٍ ...
تورنتو10.04.2017
|