أنت مع الناس، إذاً ... أنت الناس ! طباعة

 

سعدي يوسف

مُقامي بالأقصُر ، وتنقُّلي بين الضفتَينِ ، هذه الأسابيعَ ، أتاحا لي فرصةَ التأمُّلِ في ما على الفنّان أن يتّبِعه وهو يُقَلِّبُ وجوه العلاقة  ، علاقتِه ، هو ، في ما يحيطُ به ، ومَن يحيط .

في مُقامي بالأقصُر ، حرصتُ على أن أُفَتِّحَ حواسّي حتى أقصاها : عيناً ، وأُذُناً .

لقد بَعُدَ بي العهدُ ، ونأت الديار :

أنا منذ عقدَينِ في أوربا المعقَّمة ، الكالحة ، أوربا الصامتة بأهلِها المغلَقين ، وكِلابِها الصامتة .

لا صديقَ ، و لا رفيقَ.

حتى أبناءُ ما كان بَلَدَكَ ، أمسَوا  أحياءَ- موتى ، لِفَرْطِ محاولتِهم تقليدَ مَن يعيشون في كنَفِهم .

أقولُ : حرِصتُ على أن أفَتِّحَ حواسّي وأنا في الأقصُر .

أجلسُ في مقاهي الجنيهات الثلاثة ، أتملّى الوجوهَ ، سعيدةً أو شقيّةً . وأُنصِتُ إلى الحديث العابر، والنكتة اللاذعة .

ألتَذُّ بفصاحة أهل الصعيد ، وبقربِ لهجتهم من لهجة البصرة الأولى ، قبل أن تُجْهِزَ عليها الهجرةُ والحروب.

في أزقّة البرّ الغربيّ المنحدرة نحو النهر العظيم ، ألتقي أطفالاً ونسوةً ، وأُدعى إلى كوب شايٍ في هذا المنزل المتواضع أو ذاك .

ثمّتَ غرابةٌ في ملْبَسي ، تثير لدى أهل البرّ الغربيّ ، سؤالاً عن هويّتي ، فيحاولون مخاطبتي بإنجليزيّة العابر . وأتذكّرُ الأخطل الصغير ، وهو في طريقه إلى بغداد:

وتَطلّعَتْ زُمَرُ الجنادبِ من فُوَيهاتِ الثقوبِ

يتساءلون عن الفتى العربي في الزيّ الغريبِ

يتساءلون وقد رأوا قيسَ الملوَّحَ في شحوبي

والأغنياتِ على الشفاه مخضّباتٍ بالنسيبِ

*

في الأسواق ، بين شارع التلفزيون ، والمدينة المنوّرة ، هنا في الأقصُر ، أجِدُني بين أهلي ،لم أصطدمْ بأمرٍ، ولم يصدمْني مَظهرٌ .

حتى توهُّمُ أنني أجنبيٌّ لم يصدِمْني .

ما إن أنطق بالعربية حتى تتعالى الضحكاتُ العذبة !

*

لأدخلْ ، بعد هذه الديباجة الطويلة ، إلى الفكرة التي تزدادُ إلحاحاً عليّ :

أنا آنَسُ بالناسِ .

لكني أشعرُ بالفزَعِ من " المثقفين " .

وإذْ أراجعُ سيرتي أرى أن فترات إبداعي الأكثر امتداداً ، هي تلك التي لم ألتقِ فيها بأولئك " المثقفين "  :

في الجزائر ، بين 1964 و 1971

لم ألتقِ أحداً بإطلاقٍ ، لكن تلك الفترةَ كانت لديّ فترةَ غنىً وتجارب ، أسفرَتْ عن ديوان " بعيداً عن السماء الأولى".

وفي لندن ، حيث أعيش ، كالناسك ، في الضواحي ، لا أزورُ ، ولا أُزارُ ؛ كتبتُ بغزارةٍ لم أعهدْها في حياتي ، وأصدرتُ " أعمالي" في مجلداتٍ سبعةٍ ، تبلغُ صفحاتُها ثلاثة  آلاف وخمسمائة صفحة ، وهذا يعادل كل المتن الشِعري العربيّ ، من الجاهلية حتى القرن الثالث الهجريّ .

والسبب ؟

لم ألتقِ " مثقفين " !

*

في هذه الأيّامِ ، أثبتَ " المثقفون " أنهم الأسوأُ ، خَلْقاً وخُلُقاً :

هم لسانُ الحاكمين ،  الظالمين ، المتلمِّظُ كلسان الأفعى .

هم لاعقو نعالِ الشيوخِ والشّيخاتِ .

هم الرقباءُ الأشدّ ضراوةً على الفكرِ الحُرّ .

هم الوُشاةُ على أهل القلم النظيف .

هم اللاشيء !

*

صحيحٌ أني لا ألتقي " مثقفين ، لكني ألتقي سياسيّين !

السببُ أني أعرفُ ، القاعدةَ الذهبَ ، القائلة بأن السياسة هي فنُّ الكذبِ .

أعرفُ أني ألتقي كذّابين . هكذا أُحسِنُ التعاملَ مع السياسيّين . أتركهم يكذبون عليّ ويكذبون ، لأحلِّلَ ما قالوه ، في ما بَعْدُ.

*

أنا مع الناس ...

إذاً : أنا الناس !

أنتم الناسُ أيّها الشعراءُ  ...

لكنْ : أين الشعراء ؟

هل أمسى الشعراءُ ، هم أيضاً ، " مثقفينَ " ؟

 

الأقصُر 22.02.2017

اخر تحديث السبت, 01 أبريل/نيسان 2017 22:17