حضورُ الغيابِ ... عند مَيّ مُظَفَّر طباعة

سعدي يوسف

قليلةٌ هي المجموعات الشِعريّة التي تتوافرُ على موضوعةٍ واحدةٍ .

المألوف لدينا ( لديّ أنا أيضاً ) الديوانُ الذي يضمّ قصائدَ ذاتَ اهتماماتٍ والتقاطاتٍ شتّى ، قد لا يجمعها إلاّ المسعى الفنيّ ؛ هذا ، إنْ توافَرَ المسعى واضحاً ، مُسَمّى ، لا تُخْطِئه عينٌ .

لكنّ  مَيّ مظفّر في ديوانها " غياب " الصادر  في العام 2014 عن " المؤسسة العربية للدراسات " حقّقت ذلك القليلَ ، غيرَ المألوف ، وأعني الكتابة في الموضوعة الواحدة .

موضوعة ميّ مظفّر ، التي استغرقتْ ديوانَها ، بل حياتَها ، هي ، باختصار : رحيل رافع . رافع الناصريّ . الفنّان الرفيع حقّاً . رافع  ، رفيق حياة مَيّ ، الذي رحلَ  عنها ، وعنّا ،كما يرحل السحاب ...

 

*

مَيّ مظفّر لم تكن ، البتّةَ ، في الواجهة .

والسبب بسيطٌ : هي أكرمُ من أن تتشبّثَ بأوهام الواجهة .

هي شاعرةٌ أعمقُ من أن تتشبّثَ بواجهةٍ ازدحمتْ بمن يتعجّل الوصولَ ( إلى أين ؟ ) .

مَيّ مظفّر ، في " غياب " تتجه إلى الداخل ، لا إلى الخارج .

*

هي شاعرةٌ محترفة .

تتحلّى بمهارة ودِقّةٍ نادرتَين في المتداوَل من النصّ بيننا .

*

العبور من أرض إلى أرض-2

أما قلتِ :

" بأنّ طريقَنا مُشْرَعٌ

وبابَ الدارِ منغلقٌ ...

وأني سأنفُذٌ من مسامّ الليل

من شقٍّ تَخبّأَ في المرايا

بثوبي الأخضر العشبيّ

سوسنةٌ وحنّاءٌ بكفّي ...

فلا تأسَي

سأسري من حقول سنابل حبلى

إلى قمرٍ مربّعٍ "

01.06.2012

( ديوان " غياب " الصفحة 40 )

*

العلاقة النبيلة بين مَيّ ورافع ، أثمرتْ في ما أثمرتْ ، تواشُجاً بين فنّين : الرسم ( غرافيك ) ، والشِعر .

نجد ذلك في أعمال رافع الناصري التي تستلهم نصوصاً شِعريّةً ( أستودعُ الله في بغداد لي قمراً ) ، أو ابن زيدون والمتنبي .

ونجد ذلك في نصوص مَيّ مظفّر التي تحْفلُ باهتمامٍ تشكيليّ  :

أرضي

شجرٌ يُنحَرْ

وحقولُ سنابلَ مسحوقةْ

شِبرٌ من أرضٍ يابسةٍ

هكتارٌ من ملحٍ أحمر

ورماحُ شموسٍ مسعورة .

" غياب " الصفحة 20

*

أيّ  مقارَبةٍ لمجموعة مَيّ ، تستدعي الانتباه إلى غيابَين :

غياب  رافع الناصريّ الذي اختطفه الموتُ من بين ذراعَي مَيّ.

وغياب العراق ، الوطن الذي اختطفَه المحتلّون وعملاؤهم الحاكمون .

*

غزوٌ

كلهم جاؤوا ليغتالوا الفراشةْ

كلهم جاؤوا : جيوشاً ودروعاً وأساطيلَ

ترامتْ في البوادي والبحار

كلهم جاؤوا ليجتثّوا الفراشةْ

من بساتين النخيلْ

والفراشةْ

في بساط الشمسِ لاذتْ

ونجتْ .

" غياب " الصفحة 19 "

*

قد كنتُ أسلفتُ أنّ مجموعة " غياب " مكرّسةٌ للعلاقة بين مَيّ ورافع .

لكن مَيّ في تفصيل العلاقة هذه تتبع سبيلَين :

دقائق العلاقة ، حين كان رافع الناصريّ ، على قيد الحياة .

ودقائق العلاقة بعد رحيل رافع .

والحقُّ أن المرءِ لَيحارُ :

لَكأنّ رافع الناصريّ حاضرٌ في غيابه !

أي أنني لا أستطيع التمييز ، أحياناً ، بين نصوص مَيّ التي تتناول رافع حيّاً ، وبين تلك التي تتناوله راحلاً :

صوت

صوتٌ يتربّعُ فوق صوتٍ

وآنٌ يتناسلُ من آنٍ

من أين يجيء حسيسُ الأنفاسِ ؟

إنْ لم تكنْ أنت

فمَن هذا الراقدُ قربي

تُلْهِبُ أنفاسُهُ أذُني ؟

عمّان 08.06.2014

" غياب " الصفحة 70

*

مجموعة " غياب " تستحقّ الحفاوة والعناية ، لأنها تتمتّع بأصالة المسعى الفنّيّ ، و لأ نها  تفخرُ بمزيّة الشهادة ، على ما هو حميمٌ شخصيٌّ ، وعلى ما هو أليمٌ عامٌّ :

أحْياءُ بغداد انطوَتْ

لم يبْقَ غير حديقةٍ  مهجورةٍ .

 

لندن في 07.03.2017

اخر تحديث الأحد, 09 أبريل/نيسان 2017 19:09