سوف يقتله التمساح طباعة

سعدي يوسف

كانت " العجوزة " التي لا يزال حيٌّ من أجمل أحياء القاهرة يتسمّى باسمِها ، تتولّى ، في مصر ، أمرَ القاهرة.

وكان لها ولدٌ وحيدٌ ، منحتْه من حنانها وحُبِّها ما يليق بولدٍ وحيدٍ لسيّدةٍ عظيمةٍ .

ومن فرْطِ خوفِها عليه ، أرادتْ أن تطمئنَّ عليه في الآتي من أيّامه .

استدعت " العجوزةُ " المنَجِّمين ، ليقرأوا طالعَه .

اجتمع هؤلاء المنجِّمون في غرفةٍ ، وحدَهم ، ليتأمّلوا ، ويتقبّلوا ما قد يواتيهم من عِلْمٍ بالغيب .

و " العجوزةُ " في مجلسِها ، تنتظر .

مرّت ساعاتٌ وساعاتٌ ، والمنجِّمون في غرفتهم ، لم يبرحوها .

ضاقت " العجوزةُ " بالحال ذرْعاً .

أمرتْ بأن يؤتى بالمنجِّمين إليها .

جلسَ هؤلاء ، صامتين .

قالت " العجوزةُ " : ما النبأُ اليقينُ ؟

ظلّوا صامتين .

ثانيةً ، قالت : ما النبأُ اليقينُ ؟

همسَ أحدُ المنجِّمين : نرجوكِ أن تعطينا الأمانَ .

قالت : لكم ذلك . لكنْ ، ما النبأُ اليقينُ ؟

قال كبيرهم بصوتٍ مرتعشٍ : سوف يقتله التمساحُ !

*

انتفضت " العجوزة" ، وأمرتْ بأن يُرفَعَ جدارٌ عالٍ ، يحجبُ النيلَ عن مَرْبَعِها بالقاهرةِ ، فلا يرى الولدُ النهرَ

حيث التماسيحُ .

ثم أسكنتْ وحيدَها ، غرفةً ، في موقعٍ بقصرِها ، لا يمكنُ أن يُرى منها النيلُ .

وأخيراً ، لم تترك الولدَ يقرأُ  حيث يقرأ الصِّبْيانُ .

جاءتْه ، على طريقة أولادِ الملوك القدامى ، بمن يُعلِّمُه الكتابَ والحكمةَ وأمورَ الطبيعةِ  والطبائع .

كان الولدُ نبيهاً ، شغوفاً بالعلمِ والتعَلُّمِ ، مُلْحِفاً في السؤالِ إنْ غمُضَ أمرٌ أو استعصى فهمٌ .

*

في درسٍ من الدروسِ ، كان المعلِّمُ يُفَصِّلُ لتلميذه ، عالَم الحيوانِ ، الآبدِ منه والأليفِ .

ما يسعى ويزحف على البرّ ، وما يسبح ويَلْبِطُ ، في البحر والنهرِ .

وكان الدرسُ مشفوعاً بصوَرٍ ذاتَ ألوانٍ ، رسمَها رسّامٌ إسكندريٌّ معروفٌ .

*

وصلنا إلى إفريقيّةَ  ،وأنهارِها ، ووحوشِها .

ثم إلى نهرِها الفريدِ الذي يجري شمالاً ، النيل العظيم ...

ثم إلى ما في النيل من سمكٍ وسواه .

كانت الصوَرُ بالغةَ الجمالِ والتفصيلِ .

استرعت انتباهَ الولدِ صورةٌ  لمخلوقٍ نيليٍّ عجيبٍ ، مُخيفٍ ، ذي حراشفَ وأنيابٍ وعينين جاحظتَينِ .

سألَ الولدُ مُعلِّمَه : ما هذا ؟

أجابَ المعلِّمُ :  التمساح .

سأله الولدُ : أيعيشُ هنا ، في هذا النيل ؟

( لم يكن المعلِّمُ عارفاً بقصة المنجِّمين )

أجابَ : نعم .

*

انتهى الدرسُ ، وانصرفَ المعلِّمُ .

وفي الغَداةِ جاءَ إلى موعد الدرسِ .

قالوا له : الولدُ مريض .

ما به ؟

كان محموماً يهذي : التمساح ! التمساح !

*

ولم يزلْ على  على هذا الحال ، حتى توفّاه الله ...

*

لقد صدَقَ المنجِّمون :

سوف يقتله التمساحُ

وإنْ كان في بُرجٍ مشيَّدٍ ...

 

لندن 05.12.2015