كيف اهتدَيتُ إلى منزل كافافي طباعة

سعدي يوسف
أيّامَ زمانٍ ، كانت للإسكندرية وجوهٌ عدّةٌ .
كان بإمكان المرء أن يجيءّ المرفأَ العظيمَ من أيّ وجهٍ شاءَ .
وكانت للناسِ مَقاصفُهم ، بين مقهى وحانةٍ ومطعمٍ .
الشاطيءُ مفتوحٌ للجميع ، والبحرُ طليقٌ .

أتذكّرُ موئلاً لي ، في تلك الأيام الذهبِ ، مطعماً - حانةً . في زاوية تلي المدخلَ كانت سيدةٌ يونانيّةٌ متقدمةٌ في السنِّ ، تجلس إزاءَ طاولة .
تقول السيدة إنها كانت صديقةً لقسطنطين كافافي ، وإنه أهداها نسخةً بخطِّ يده من قصيدته الشهيرة في العالم كله : " المدينة " ، التي يقول فيها - إنْ خرَّبْتَ حياتَكَ في هذه الزاوية من العالَمِ فهي خرابٌ أنّى حللتَ!
تمضي السيدة في القول : أنا استنسختُ " المدينة " ، وها هي ذي أمامك !
اشتريتُ منها نسخةً . القصيدة بالإغريقيّة .
قلت للسيدة : أريد أن أرى منزلَ كافافي ...
( كان ذلك قبل أن تحوِّلَ القنصليةُ اليونانية بالإسكندرية ، هذا المنزلَ ، إلى متحفٍ لكافافي .
وصفتْ لي سبيلي ، فمضيتُ .
هناك  رقم 8 شارع لبسوس ( شرْم الشيخ ) حاليّاً .
ربما كان لبسوس اسماً لجزيرة من حزر البحر الهلّيني ...
هناك عمارةٌ قديمةٌ .
سلّمتُ على البوّاب . وأفهمتُه أني أريد أن أرى منزلَ كافافي .
بدا الضِيْقُ على وجه الرجل ، وقال :
أنت أيضاً تريد أن ترى تلك الشقّةَ ؟ لقد تعبْتُ ! أتعلمُ أن شابّاً أوربيّاً زار الشقة قبل ثلاثة أيّام وخلعَ مقبضَ الباب ، ومضى  به . الآن يتعيّن عليّ أن أصلحَ الباب ...
قلتُ له : سأدفع لك ما يعوِّضُ ما ارتكبَه ذلك الشابّ . أريد أن أرى الشقّةَ !
أجاب متنهداً : يا سبحان الله  ... هيّا .
ارتقينا سُلّماً عتيقاً ، وبلغْنا الشقّة . دفع البوّابُ البابَ ، فانفتح َ .
بغتةً تجد تفاصيل الغرفة التي تحوّلتْ قصائدَ خالدةً .
هاهي ذي خزانة الملابس . وتلك هي المرآة ، والسرير العتيق ، والشّرفة الضيّقة المطلّة على شارع لبسوس.
المزهريةُ هنا أيضاً ، وحاملُ الشموع  . لكن الشقة كانت وجهاً لإهمالٍ ليس له مثيل . لم أقُلْ للبوّابِ شيئاً .كان إحساسٌ فادحٌ يستولي عليّ ، حتى لقد شعرْتُ بدُوارٍ خفيف . غادرتُ المكان لأعودَ إلى الحانةِ الإغريقية ، حيث السيدة العجوز ، صديقةُ كافافي . سأشتري نسخة أخرى من " المدينة " ...
*
منزل كافافي
8 شارع لبسوس :
هل كانت اسكندريّتُكَ ، البحرَ ؟ أم أنها الإستدارةُ ، حيث يضيقُ الزُّقاقُ ، وينتثرُ النورُ مثلَ حـــلازينَ مسلوقةٍ ؟ ربما كانت اسكندريتُكَ ، البابَ ، هذا الذي لا أراهْ . ربما كانت التمتماتِ التي  ارتبكتْ في الشفاهِ ، ولم تنطلِقْ ... ربما كانت المزهريّةَ أو شرفةَ القصرِ حيثُ الإله ْ كان يخذلُ أنطونيو ...
8 شارع لبسوس :
من أين جاءَ أغارقةُ الليلِ ؟ من أين جاءَ النبيذُ ؟ ومن أين هذا الغناءُ الذي يترنّحُ ؟ هذا البوزوكي المهشَّمُ ؟ هذا الهواءُ الذي هو هيهات هيهات هيهات ، هذا الهواء الذي هو في هُوّةِ الآهِ آهْ .
8 شارع لبسوس :
أعتمت الشرفةُ ...
الغرفةُ انسحبتْ عبرَ مرآةِ دولابِها
والقميصُ يطيرُ إلى البحرِ
والبحرُ غابْ ...
..............
..............
فإنْ كنتَ أنطونيو ، فانتظِرْ
قد يناديك عبرَ هشيمِ المرايا ، إلهْ ...
----------
القصيدة كُتِبَتْ في تونس العاصمة بتاريخ 12.02.1990