في ليل بروكسل : أشقياءُ مغاربةٌ سلبوني العراقَ الذهبَ |
|
ســعدي يوسـف ما آبَ من سفرٍ إلاّ و ... أنا امرؤ يحبّ الأسفارَ ، حتى القريب منها ، كأن تسافر بقطار اليوروستار من محطة كنج كروسٌ اللندنية إلى بروكسل . كنت زرت بروكسل مرةً لأقع ضحية احتيالٍ من جانب مسرحيّ عراقيّ كان يقيم في أنتويرب ،و لربما حتى اليوم. الآن اختلفَ الأمرُ ، فأنا ذاهبٌ أزورُ صديقةً بلجيكيةً كنت أعيش معها أيامَ باريس العجيبة. أوكتافيا دي بويسير.
كانت أوكتافيا زوجةً للرسام البلجيكي المعروف ديس دي برون ( توفي في العام 1998 ). في باريس افترقا ، أوائل التسعينيات ، فقررت السيدةُ العيشَ معي في الضاحية الباريسية أوبرفيلييه. Aubervilliers تقلّبتْ بنا الأمكنة والظروف ، لكنا ظللنا على صلةٍما. قبل عشر سنين زارتني في لندن. الآن أزورها ، في نيسان ، بعد سنواتٍ عشرٍ ، ملأى. لسنا ، نحن الإثنين ، في غضارة الصبا. الزيارة ، إذاً ، لها معنىً أعمقُ. في شباط الماضي قلت لأوكتافيا : أريد أن أزوركِ . قالت : مرحباً بك . قلت: سأبقى أسبوعين . قالت : ابقَ ما شئتَ. سألـتُها : في مسكنكِ ؟ أجابت : أين إذاً ؟ * أوكتافيا تعيش في حيّ غير بعيد عن وسط العاصمة ، حيّ مختلط الأجناس واللغات . منزلها قريب من محطة مترو. في منزلها كلبان ، أحدهما نصف ذئب. شقّتها أقرب إلى أتيلييه ، وتضمّ عدداً من أعمال زوجها الراحل. قدّمتْ لي سريرها ، وارتضتْ لنفسها سرير الضيوف. الكلبان يعيشان معها في الشقة. * أوكتافيا تغنّي في أوبرا شعبية . تروي حكايات للكبار والصغار. وتتابع باهتمامٍ المعارضَ التشكيلية. * لأوكتافيا علاقة وثيقةٌ بمركز ثقافيّ فلمنكيّ ( تمييزاً عن الثقافة الوالونية الفرنسية ) ، اسم المركز : سينما Zinnema وهي تذهب إلى هناك أكثر من مرتين أسبوعيّاً. * مساء السابع عشر من نيسان ، أي ليلة سفري عائداً إلى لندن ، قالت لي : أنذهبُ إلى المركز؟ هناك جازٌ حيٌّ. هي تعرف أنني أحبّ الجاز . قلت لها : لكنْ علينا ألاّ نتأخر . قالت: ساعة واحدة فقط ! ابتدأ الجاز متأخراً ساعةً تقريباً عن الموعد المقرر. أوكتافيا ظلّت تكرع النبيذ . أنا امتنعتُ تقريباً. ضجرتُ . خرجت من القاعة أتمشّى في الممرّ لعلّ أوكتافيا تخرج لنعود إلى شقّتها. لا خبر. أخيراً جاءني مدير المركز وزوجته . قالا لي : أوكتافيا زادتْها هذا المساء . أنت تعرفها . خرجتْ أوكتافيا ضاحكةً . بمجرد بلوغنا الشارع ، فقدتْ صديقتي القدرةَ على السير المتزن. قلت لها : الخير أن نعود في تاكسي. رفضتْ. هكذا سرنا بمشقّةٍ حتى بلغْنا محطة المترو . كانت الساعة حوالي الحادية عشرة. في المدخل ، كان الحرّاس ذوو السترات الحمر المخططة ، يبدون مغاربةً ، وكان أيضاً عددٌ من الشبّان المغاربة يتمازحون ويتصرّفون بصورة مريبة غير بعيدين عن الحراس. أوكتافيا التي تحبّ المغرب كثيراً ، حدّ الاشتراك في " المسيرة الخضراء " ، لم تهبط إلى القطار ، وإنما اتجهت إلى المغاربة ، تمازحهم وتتضاحك معهم . رجوتُها أن تأتي نحوي ، لكنها أصرّت على البقاء بين الشبّان المغاربة . لاحظتُ ، مرتعباً ، أن أحد الشبّان كان يحاول انتزاع خواتمها من أصابعها ... احتدمتْ . كادت تسقط على الأرض . سحبتُها إلى المدخل لنأخذ القطار ، لكن أحد الحراس اعترض قائلاً إنها سكرى . والقانون يمنع السكارى من استخدام القطار. والأرجح أنه كان يريد أن يساعد الشبّان على سرقتها . فجأةً اندفع أحدهم إليّ. كنت بعيداً شيئاًما . اندفع إليّ وسحب من عنقي سلسلة الذهب ، العراق الذهب ، السلسلة التي أهدانيها صائغٌ عراقيٌّ في السويد ، والتي تحمل خارطة العراق . لا أدري كيف عرف اللصّ المغربيّ أنني أحمل سلسلةً . كنت ألفّ رقبتي بإيشارب أبيض أسود على طراز حمار الوحش ، أهدتنيه أوكتافيا. حاولتُ الإمساك بالسلسلة فتدفّق الدم من إبهامي . فرّ اللصوصُ فجأةً. جاء الحرّاس . قالوا : استدعَينا الشرطة. جاء الشرطة. بعد سلام وكلام ... وتحقيقٍ أوّليّ ، وسؤالٍ عمّا كنتُ بحاجة إلى سيارة إسعافٍ ... بعد هذا كله : حملتنا سيارةُ الشرطة إلى منزل أوكتافيا التي ظلّت تهذي طوال الطريق. ولقد كانت الليلة ليلاءَ حقّاً : ظلّت أوكتافيا تعوي ، مثل لبوءةٍ جريحٍ . تعوي الليل كلّه : سرقوا بطاقتي الحمراء الصغيرة . سرقوا بطاقة الإئتمان البنكيّ . سرقوا بطاقة التأمين الإجتماعي ... واه ! واه! سأكون عنصريّةً ! أجهزتْ على قنينة نبيذ . حاولتْ أن تدخن لكني منعتُها ، خشية اندلاع حريق في الشقّة. الكلب نصف الذئب ظلّ هادئاً. * والآن ؟ أعتقدُ أن الأشقياء المغاربة فعلوا ما كان عليّ ، أنا ، أن أفعله : الخلاص من فكرة العراق الذهب ! العراقُ لم يعُدْ قائماً . ولن يعود ... * في منزلي بحثتُ عمّا أطوِّقُ به عنقي. تذكّرتُ قلادةً سوداءَ تحمل صورة شي غيفارا. هذه القلادة اشتريتُها ، ذات صباح نيويوركيّ ، من بائعٍ جوّالٍ ، أسود. القلادة سوداء. غيفارا بالأبيض والأسود. * أذهبُ بغير ذهبٍ. النبيّ لا يورث. هكذا قال محمد بن عبد الله على فراش الموت. لندن 20.04.2012
|
اخر تحديث الجمعة, 20 أبريل/نيسان 2012 21:43 |