مؤيّد الراوي ، بعد ثلاثٍ وثلاثين طباعة

ســعدي يوسـف

كان الكتاب الأول لمؤيد الراوي " احتمالات الوضوح " الصادر في العام 1977 ، علامةً هامّةً ، وإنْ بدتْ مـنسـيّةً ، في نشوء قصيدة النثر وتطوُّرِها.
كان من سوء حظ الشكل ( الجديد عربيّاً ) أن تناهبَه أشخاصٌ معنيّون بالصحافة المحترِفة أوّلاً ، قبل أن يكونوا مَعنيّين بالشِعرِ فنّاً ومنطلَقَ حياةٍ شجاعةٍ .
ربما لم يكتب أحدٌ عن هذه المجموعة الرائدة ، فالقومُ عاكفون على تبادل المدائح بينهم ، وليس من همِّهم أو صالحِهم الكتابةُ عن الشِعر الجادّ ، أصلاً .
*
اليوم  ، في 2010 ، يصدر عن " دار الجمل " كتابُ مؤيّد الشعريّ الثاني " ممالك " بعد ثلاثٍ وثلاثين سنةً من صدور كتابه الأول ، في بيروت أيضاً .
إنه لأمرٌ فريدٌ حقّاً !
الراوي لم ينقطعْ عن الكتابة ، هذه السنينَ كلَّها ، بل كان منقطعاً إليها . يكدّس قصائده أكداســاً ، ولَربما
انتظرَ سركون بولص في عبوره من سان فرانسسكو إلى برلين كي يتقاسما النظرَ في النصوص ، ( النائمة؟ )
أنت تسجلُ موقفاً إزاءَ العالَم أو نظرةً .
النشر عمليةٌ تاليةٌ ، عمليةٌ قد لاتعني شيئاً آنَ اختلالِ القيَم
لقد أدّيتَ شهادتَك الشجاعة . بينك وبين نفسِك؟ أجل . أليس هذا كافياً ؟ ما شأنك والكرنفال الصفيق؟
*

لكنّ الأمرَ فادحٌ :
أريدُ ، والدمُ يشخبُ هنا وهناك ، أن أســردَ
وأمنحَ الشِعرَ استراحةً . أكتبُ العتمةَ التي لا تحتملُ التأويلَ
أمزجُ الألوانَ مثلَ دَهّانٍ أعمى
مؤجَّرٍ لليلٍ يلطِّخُ النجوم
ممالك( ص 33 )
*
يتبدّى لنا الراوي في " ممالك" راوياً حقّاً .
أعني أننـا لا نرى مؤيَّداً إلاّ راوياً ، إلاّ متربِّعاً يرصدُ عالَمَنا مثل أبي هولٍ ناطقٍ . هو طَوْدٌ لا يهتزّ وسطَ واقعٍ مهزوزٍ حدَّ الانهيار .
الذاتيّ شِبـْهُ ملتفَتٍ عنه.
اللمسة الذاتية الصريحة الوحيدة في الديوان هي في الصفحة الخامسة :
إلى زوجتي فخرية صالح
أعانتني كثيراً في إنجاز هذا الديوان
وبالإمكان وضعُ مرثيّته لصديق طفولته ، جليل القيسي ، (ص 120) ، وقصيدته عن جان دمّو ( ص134 ) ، وقصيدة " الذئب " المهداة إلى سركون بولص ( ص117) في هذا السياق . الثلاثة من " جماعة كركوك" .
*
أبو الهولِ ، الناطقُ ، لا ينطِقُ عن هوىً .
المعلومةُ والمحسوسُ يرفعان النصَّ إلى مرْتبةِ الحقيقة.
تُسنِدُ العمليةَ كلَّها راديكاليّةٌ متطرِّفةٌ ، لا تعرف المساوَمة.
الفنّانُ يواجهُ عالَماً شرِســاً ، بشراســة النصّ .
*
في قصيدة " معجزة المتنزِّه " – ص 175  ، بإمكاننا تتبُّعُ البِنْية الفنّية لقصيدة مؤيّد . إنه شاعرٌ متأنٍّ . بل أظنّ أنه يضع خطّةً مبتسَرةً للقصيدة قبل أن تتشكّلَ ، ثم يمضي في الكتابة .
القصيدةُ ذاتُ سبعِ مراحل :
على مائدة الإفطار ( الفطور ) قبالة زوجته.
على مائدة اإفطار يترك المتنزه زوجته.
قال المتنزه إنها النهاية.
حدثت الأعجوبة.
كل شــيء سيضيع.
المتنزه لوحده.
قبالتَـه أقفُ .
كل مرحلةٍ مكتفيةٌ فنّيّاً ، لكنها تؤسسُ للمرحلة التالية ، في عمليّةٍ دقيقةٍ ، غيرِ متعسِّفة .
سيكون النصّ  مُـقْـنِعاً ، بالرغم من أنه دعوةٌ للجنون.
*

قصيدة " ممالك " الأخيرة ، ص 221  ، التي أضفت اسمَها على الديوان ، هي ، أيضاً ذات سبعِ مراحل  سُمّيَتْ ممالكَ :
مملكة الدهشة – مملكة غير مفترضة- مملكة مختلَقة- مملكة اليقين- مملكةٌ وسيطةٌ – مملكة الناس – مملكةٌ راهنةٌ.
وعلينا أن نتملّى هذا النصّ ، شأن مُعظمِ نصوص الديوان ، كي نتعلّمَ أكثرَ من درسٍ في محاولة قصيدة النثر.
*
مؤيّد الراوي ، في " ممالك " مجهَّزٌ
مكتملُ العدّة
مثل محارِبٍ رومانيّ !

لندن 09.09.2010