بحــثاً عن فردوس الـقِـيَـمِ المفقود طباعة

  ســعدي يوســـف

مساءَ الرابع من أيلول هذا  ، كنتُ على موعدٍ طالَ انتظارُه :

اللقاء مع دانييل بارينباوم ، عازف البيانو القدير ، وقائد الأوركسترا ، وصديق إدوارد سعيد ، وشــريكه في أكثر من مشروع وعمل ، من بينها " متوازيات ومتفارقات "  ، والفرقة الموسيقية المختلطة –" الديوان الشرقي / الغربي " ، الإسم المأخوذ كما هو واضحٌ من الشاعر الألماني غوته .

كنتُ استمعتُ إلى بارينباوم يقود اوركسترا برلين الفلهارمونية  في تأدية أعمالٍ لفاغنر وليست وموتسارت وغلينكا ودفورجاك

، كما تابعتُ محاولتَــه الذهاب إلى رام الله لتقديم برنامج موسيقي ، وإخفاق المحاولة بسبب إقدام السلطات الإسرائيلية على منعه من التوجه إلى هناك ، بدعوى الخطر الذي قد يتهدده هناك .

هذا المساء ، سيكون الرجل في " الباربيكان " مع فرقته المختلطة من إسرائيليين وعرب ، ليقودها في أداء عملين موسيقيين ليسا هيِّـنَـينِ : الكونشرتو الثالث لبيتهوفن ، والسمفونية السادسة لتشايكوفسكي .

هذا الحفل الموسيقي في العاصمة البريطانية كان ضمن الأنشطة المقامة إحياءً لذكرى إدوارد سعيد الراحل منذ عامٍ .

ذهبتُ إلى هناك ولا يزال مقالٌ أخيرٌ للرجل يدور في خاطري .

                                                            ***

كان إدوارد سعيد يتحدث عـمّـا سـمّـاه أدورنو ، الأسلوب الأخير، Late style ، وهو تعبيرٌ عن الطرائق الأخيرة التي يلجأُ إليها المبدعون حينَ يلحق بأحدهم  الهرمُ أو المرض  ، أو كلاهما ؛ وإذ يتتبّـع سعيد خصائص هذا الأسلوب الأخير لدى موسيقيين وكتّـاب وشعراء ، يركِّـزُ على بيتهوفن ، ولامبيدوزا ( مؤلف الفهد ) ، وكافافي الإسكندريّ .

المرحلة الثالثة من مسيرة بيتهوفن الإبداعية تضمُّ أعمالاً من بينها سوناتات البيانو الخمس الأخيرة ، السمفونية التاسعة ، الأربعيات الوترية الستّ الأخيرة ، ويرى أدورنو أن هذه المرحلة تشكل حدثاً بارزاً في تاريخ الثقافة الحديث . إنها اللحظة التي يفارق فيها الفنانُ المتمكن من أداته  ، التواصلَ مع النظام الإجتماعي القائم الذي هو جزءٌ منه ، ويحقِّقُ علاقةً متناقضةً واغترابيةً  معه . أعمال بيتهوفن الأخيرة  هي شكلٌ من المنفى ، بعيداً عن محيطه .

 ***

" الفهد " ، العمل الفريد ، الذي طُبِع بعد عامٍ من رحيل مؤلفه ، تدور أحداثُه خلال حملة غاريبالدي لتوحيد إيطاليا التي تشكل الإنهيار النهائي لنظام الأرستقراطية القديم ، حتى أمسى البطل ، أميرُ سالينا العجوز ، " وحيداً  ، رجلاً تحطمت سفينته ، يتشبث بطوفٍ تتقاذفه الأمواجُ المتلاطمة من كل صوب" . الإنحلال الإجتماعي ، إخفاق الثورة ، الجنوب العقيم غير المتبدل ، كل هذا متبدٍّ في كل صفحة من " الفهد" ، لكن الغائب هو أي حلٍ ممكن للجنوب ، كذلك الذي ارتآه غرامشي في مقالة له ، العامَ 1926 ، ويتضمن تضافر جهود بروليتاريا الشمال وفلاّحي الجنوب ، المضطهَدين جميعاً ، من أجل التغيير المنشود .

الرواية غير معْـنِـيّـةٍ بشيء من هذا ، والأمير في مرضه الأخير  ، طريح الفراش في فندقٍ بائسٍ بـ" باليرمو " حاضرة صقلية . لن يتغير شيءٌ . إن أهالي صقلية لا يريدون أي تحسُّـنٍ في أوضاعهم ، لسبب بسيط هو أنهم يرون أنفسهم في غاية الكمال ! أتظن أنك ، يا سيد شيفالي ، أول من حاول دفع الصقليين إلى مجرى التاريخ الشامل ؟ صقلية تريد أن تظل نائمةً بالرغم من هتافاتهم …

 

                                                            ***

الـمُـعادِل الشعري لمؤلف " الفهد " لامبيدوزا ، هو ، في رأي إدوارد سعيد ، الشاعر اليوناني الإسكندري كونستانتين كافافي .

معروفٌ أن شعر كافافي لم يصدر في هيأة كتاب إلا بعد رحيله ، في العام 1933  ، وقد كان أوصى بالحفاظ على مائة وأربعٍ وخمسين من قصائده .

من قصائد كافافي المبكرة ، قصيدة " المدينة " الشهيرة ، والتي يحفظها محبّـو كافافي ، وهي حوار بين صديقَين ، أحدهما ( ربما كان حاكماً ) يندب حظه العاثر  ، كسجين مدينةٍ مصرية على البحر :

كيف يمكن لي أن أدع ذهني يتعفن في هذا المكان؟
حيثما ولّيتُ وجهي

رأيتُ الأطلالَ السود لحياتي ، هنا ،

حيث أمضيتُ سنينَ عدّةً

أضعتُها ، وحطّـمتُـها تماماً .

المتكلم الثاني يجيبه بعبارات باردة التحديد ، ضيقة المجال ، غير منحازة  ، شأنها شأن منهج كافافي الرواقي :

لن تجد بلاداً أخرى
لن تجد شاطئاً آخر .

هذه المدينةُ ستتبعك .

ستُـطوِّفُ في الشوارع ذاتها ،

وتهرمُ في الجِـوار نفسه ،

وتشيب في هذه المنازل نفسها .

سوف تنتهي دائماً إلى هذه المدينة .

فلا تأملَـنَّ في فرارٍ :

لا سفنَ لك

ولا سبيل .

ومثل ما خرّبتَ حياتك هنا

في هذه الزاوية الصغيرة ،

فهي خرابٌ أنّــى حللتَ .

 

قصائد أمثال " إيثاكا " و " الإله يخذل أنطونيو " تؤشــر لأهمية اللحظة العابرة ، اللحظة الملتبسة ، اللحظة التي لا تكاد تبين ، لكنها اللحظة التي تكتنز الجوهر الإنساني والشِّــعرَ في آن .

يلحظ المرءُ في قصائد كافافي المتأخرة  ( شواهد أسلوبيته المتأخرة )  ، تلك القدرة المذهلة على إثارة الخيبة والبهجة معاً ، بدون حل التناقض البيِّــن بينهما .

إن ما يحفظهما متوترتينِ ، كقوّتين متساويتين ،  مشدودتينِ إلى اتجاهين متضادّينِ  ، هو ، بلا شكٍ ،  الموضوعية الناضجة للفنان ، المتخلية عن الإدعاء وكل ما هو فضلةٌ .

ثمّتَ ثقةٌ متواضعةٌ  ، تتوافرُ هنا ، مَصدراها : العُــمرُ والمنفى .

                                                ***

فردوسُ القِــيَــم المفقود … سيظل مفقوداً

لكننا سنظل نلمحه ، مثل خطفة البرق ، عبر الفن وحده .

                                                                                                  لندن 8/8/2004