جوزيف كونراد في البَرّ اللاتينيّ طباعة

سعدي يوسف

يعود اهتمامي بجوزيف كونراد ، المولود في العام 1857 بأوكرانيا القيصرية من أبوين بولنديين ، والمتوفّى بقرية بيشوبسبورن من مقاطعة " كَنتْ " بشرقيّ المملكة المتحدة ، في العام 1924 ، أقول يعود اهتمامي بالرجل إلى عقودٍ خلتْ ، قرأتُ فيها مُعظمَ ما كتبه ، وقرأتُ أيضاً الكثيرَ ممّا كُتِبَ عنه ، ومن بين هذا الكثيرِ

كتاب الراحل قريباً ، كيفن يونغ ،الموسوم " بحثاً عن جوزيف كونراد " الذي يتابع فيه مسار البحّار والمؤلف ، مبتدئاً بكورنوال التي هبطَها يونغ في مقتبَل حياته ، بَحّاراً ، حتى  قرية بيشوبسبورن التي قضى فيها أعوامه الأخيرةَ ، وقضى فيها أيضاً ، ليُدفَن في كا نتربري ،

إذ ليس في هذه القرية ، حتى اليوم ، مقبرةٌ للكاثوليك ، وإن احتفظت القريةُ هذه بقاعةٍ للاجتماعات أطلقتْ عليها اسم جوزيف كونراد.

لا أقول إنني تتبّعتُ ، على البرّ واليابسة ، رحلةَ كونراد كما تتبّعها كيفن يونغ ، لكنني ذهبتُ ، في الأقل إلى البداية حيث كورنوال ، وإلى النهاية حيث بيشوبسبورن والبيت الذي كان لكونراد مسكناً ، بيت الكلاب الشرسة التي تمنع حتى الإطلالةَ إن طالت للتأمُّل !

*

جوزيف كونراد ، البحّار ، يكتب عن البحر ، وبخاصة عن منطقة الأرخبيلات في سنغافورة والملايو وإندونيسيا ، حيث قيل إنه اشتغل ، فترةً ، في تهريب البنادق ، شأنه شأن رامبو في الحبشة ، أيام منيليك الثاني !

عملَ أيضاً على خطٍّ بحريّ بين مرسيليا وجزر الهند الغربية ، كما وصل إلى الكونغو البلجيكية ، مكان روايته القصيرة الخطيرة " قلب الظلام " ، التي تجلّت في فيلم كوبولا الشهير " القيامة الآن "  ، في مقارَبةٍ بين نهر الكونغو ونهر الميكونغ

*

روايات كونراد كلّها ، ذواتُ أجواء بحرية ، طافحة بالمغامرة ، والخطر ، أجواء يضطربُ في رياحها وأمواجها مغامرون وأفّاقون قدِموا من أوربا طمعاً في المال والأرض؛ هؤلاء الأفّاقون تدهمهم الخيبة بعد الخيبة ، لكنهم يواصلون رحلة اللاعودة ، الجشعة ، غير المبالية ، حتى النهاية ، النهايةِ المأساةِ في أحيانٍ كثيرةٍ .

في الرواية البحرية ، لدى كونراد ، لا تطلّ السياسةُ إلاّ  لـمحاً ، حتى ليبدو الرجل غير مَعنيٍّ بالسياسة إطلاقاً ، لكنه لا يحجب الأمر السياسيّ إنْ أطلَّ ، ولم يُطِلْ .

الرواية التي أنا بصددها ، " نوسترومو " ، روايةٌ برّيّـة ، أي ليست بحريةً  ، شأن رواياته الأخرى . وهي لا تدور في منطقة الأرخبيلات الأثيرة ، بل في أميركا اللاتينية ، على الساحل الغربي منها ، السلفادور ، أو كوستاريكا ، أو نيكاراغوا . هو يكنّي عن الدولة باسم " كوستاغوانا " ، أمّا نوسترومو فهو مغامرٌ إيطاليّ اسمه الحقيقيّ جيوفاني باتيستا .

Nostromo

" نوسترومو " قد تعني في مقاربة الأصل اللاتيني : رَجُلـنا ،  وهو لقبٌ حظيَ به جيوفاني باتيستا ، بسببٍ من الخدمات الـجُلّـى ، الخطرة ، التي كان يقوم بها للناس والمتنفذين في بلدة سولاكو ، المرفأ الهامّ ، وموقع منجم الفضة.

الرواية صدرت في العام 1904 ، وطبِعتْ مرارا .ً

في العام 1917 ، كتب كونراد مقدمةً للرواية  ، تطرّقَ فيها إلى نوسترومو باعتباره " ابن الشعب " ، الرجل الذي يحْضر اجتماعات الفوضويين ، وينصت إلى خُطَبهم ،  وهم يحلمون بثوراتٍ آتيةٍ لا ريبَ فيها

ربما كان ذلك إفصاحاً متأخراً لكونراد عن مَجاذبَ مكنونةٍ ، لكن هذا واضحٌ بجلاءٍ في بِنيةِ الرواية وعُقدتها الأساس ، إذ أن منجم الفضّة الذي يملك امتيازَه شخصٌ بريطانيٌّ ، معتمَدٌ من مموِّلٍ أميركيّ في كاليفورنيا ، هذا المنجم هو المحرِّكُ الحقيقيّ للكثير من الشخوص والأحداث ، والانقلابات ، والانقلابات المضادّة .

كتاب "  تاريخ خمسين عاماً من الانفلات "   History of Fifty Years of Misrule

الذي يشير إليه كونراد في متن الرواية ، سجلٌّ لهذا الصراع بين أهل البلاد ، الوطنيين ، والأجانب الذين يريدون الاستيلاء على ثروات البلاد  ، والتحكّمَ بمصيرها ، حاضراً ومستقبلاً

قلتُ إن منجم الفضة ، كحقل البترول اليوم ، هو المتحكِّم بالأحداث

وثمّتَ امرؤٌ شــاهدُ حقٍّ

هذا الشخص هو جيورجيو فيولا ، شيخٌ من جنَوا ، رفيقٌ لغاريبالدي ، حتى النهاية المريرة

السيد فيولا ، يرقب الأحداثَ ، ويفســرها ، من موقعه الذي لا يزال تحت راية غاريبالدي وأصحابه ذوي القمصان الـحُمر

وهو يكنّ لنوسترومو حبّـاً عميقاً

بل أراد أن يزوِّجه إحدى ابنتَيه ، وفاءً لذكرى زوجته المتوفّاة ووصيّتها

نوسترومو يظل " ابن الشعب " حتى يتدخل منجم الفضة ، ليحوِّل خياراتِه إلى مجرىً آخر

إثْرَ تهديدٍ من قواتٍ انقلابية زاحفة على سولاكو ، يقرر تشارلس جولد ، مالكُ المنجم ، نقلَ سبائك الفضة ، فيتمّ الأمر بمساعدة نوسترومو.

تُخَـبّـأ السبائك في جزيرة مهجورة . نوسترومو ، وحده ، يعلم بالمكان ، حيث مدفَن السبائك

يتسلل نوسترومو ، في الليل البهيم ، إلى المكان ، ليأخذ عدداً من السبائك ( أراد أن يكون غنياً على مهلٍ )

جيورجيو فيولا ، الغاريبالديّ العجوز ، كان يحرس المكان خوفاً من خطف إحدى ابنتَيه من طرفِ عاشقٍ مُدنَفٍ

الغاريبالديّ العجوز ، وقد كلَّ بصرُه ، يطلق النارَ  ...

القتيل كان نوسترومو ، لا المختطِف المزعوم

يقول كونراد في نهاية المقدمة :

لقد تحرّرَ ابنُ الشعب ، مع آخِرِ نفَسٍ ، من أعباء الحبّ والمال .

اخر تحديث الأربعاء, 30 دجنبر/كانون أول 2020 11:17