الشاعر العراقيّ الوحيد سركون بولص ( 1944-2007 ) يرحل في برلين... طباعة

سعدي يوسف 2007 / 10 / 23

في تمّوز ، هذا العام ، وفي الجنوب الفرنسيّ ، في مهرجان لودَيف تحديداً ، ألتقي سركون لقاءً غريباً .

كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف ، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام ، لكني لم أجده في الأيام الأولى . انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل ، بلا جدوى . أنا أعرفُ أنه مريضٌ ، وأنه بحاجةٍ إلى انتباه واهتمامٍ ... لم " أعثرْ " عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً حتى لنفسها ...

سألتُ عنه أصدقاء ، فلم يجيبوا .

عجباً !

وفي صباحٍ باكرٍ . عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ . رأيتُ سركون جالساً على الرصيف . كنتُ مع أندريا . قبّــلتُه : أين أنت ؟

كان شاحباً ، مرتجفاً من الوهَن ، محتفظاً بدعابته : في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود.

La Roseraie

كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً على أريكةٍ في البهو . سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان . هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما . لا مجال لي للعودة إلى الغابة . قلتُ أنام قليلاً هنا حتى انبلاج الصبح . لكنّ السيدة جاءت ...

سألتُه : عن أيّ غابةٍ تتحدّث ؟ ( ظننتُه يهذي ) . قال بطريقته : إي ... الغابة التي اختاروا مسكني فيها . ليس في المسكن فراشٌ مجهّز . المكان مقطوع . هناك سيارة تصل إلى المكان مرةً واحدةً في اليوم !

أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها .

قال إنه ليس في المدينة !

جلسنا معه على الرصيف .

فجأةً لمحتُ إحدى المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها .

ابتدرتُها بالفرنسية : Il va mourir dans la rue …

سوف يموت في الشارع !

عواهرُ المهرجانات ، يستمتعن ، كالعادة ، في غرفاتٍ عالية ...

*

قلقي عليه ظلّ يلازمني .

حقاً ، اشتركتُ معه ، في جلسة حديثٍ مشتركة ، أمام الجمهور ، عن العراق ، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته ، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال ، على خلاف معظم المثقفين العراقيين . أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلى العافية ، لم تخفِّفْ من قلقي عليه .

رأيتُه آخر مرةٍ ، في منزل الوردِ التعيس ، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما . قالا إنه سوف ينزل هنا ( المهرجان أوشك ينتهي ) . ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ

ثم أخذاه فجأةً إلى خارج منزل الوردِ . سألتُهما : أين تمضيان به ؟ إنه مريض .

أجابا : هناك إجراءٌ رسميّ ( توقيع أو ما إلى ذلك ) ينبغي أن يستكمَل !

قلتُ لهما : إنه لا يستطيع السير . دعاه يستريح . نحن نعتني به .

قالا : لدينا سيارة !

انطلقت السيارةُ به ، مبتعدةً عن منزل الورد .

في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلى غير رجعةٍ .

*

قلقي عليه ظلّ يلازمني .

اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين . ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون .

سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي .

ثم اتصلتُ ثانيةً . قلت له إن سركون في المستشفى .

طمْأنني فاضل عليه .

لكني لم أطمَئِنّ .

*

هذا الصباح ، ذهب خالد المعالي ، يعوده ، في المستشفى البرليني ، ليجده ميتاً ...

( التفصيل الأخير تلقّيتُه من صموئيل شمعون الآن ... )

*

ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد ...

قد يبدو التعبيرُ ملتبساً .

لكن الأمر ، واضحٌ ، لديّ .

سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق .

بدأ في مطلع الستينيات ، مجهّزاً ، مكتمل الأداة ، مفاجِئاً وحكيماً في آن .

لم يكن لديه ذلك النزق ( الضروريّ أحياناً ) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة .

سركون بولص لم يقتحم الساحة . لقد دخلَها هادئاً ، نفيساً ، محبّاً ، غير متنافسٍ .

كان يسدي النصيحةَ ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة ، مقابل الخصومةِ ، والمشتبَكِ ، والادّعاء .

لم يكن ليباهي بثقافته ، وإن حُقّتْ له المباهاة .

هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ .

سركون بولص يكره الإدّعاء !

*

وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ ...

هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ .

لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ ...

لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر !

وقف ضدّ الاحتلال ، ليس باعتباره سياسياً ، إذ لم يكن سركون بولص ، البتةَ ، سياسياً .

وقفَ ضد الاحتلال ، لأن الشاعر ، بالضرورة ، يقف ضد الاحتلال .

سُــمُوُّ موقفِه

هو من سُــمُوّ قصيدته .

*

لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ ، ومسؤولياتها ، مثل ما ألَمَّ سركون بولص . مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً . إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلى النصّ الـمُنْبَتّ ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ :

رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة ...

مدخلُهُ ، المدّ الشعريّ الأميركيّ . مجدُ النصّ المتّصل .

أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة ، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة .

قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى ...

طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا ...

*

قصيدتُه عن " السيد الأميركيّ " نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق المحتلّ !

*

سركون بولص ...

شاعر العراق الوحيد !

 

لندن 22.10.2007