قصَبٌ في مَهَبِّ الكمبيوتر طباعة

سعدي يوسف

لِلّهِ أقلامُكَ اللائي جرتْ لمدىً .. في الحُسْنِ، أبقت لباغي شأوِها النَّصَبا

رقَّتْ، و أطربت المُصغي،و حُزْتِ بها.. فضلَ السباقِ، فسَّماها الورى قصَبا

*

أحسَبُ هذين البيتين اللذينِ أرويهما عن ذاكرةٍ مرهقةٍ، جاءا في مديحِ ابن مُقْلَةِ، خيرِ سلَفٍ لخير خلَفٍ، و أحسبهما في الوقت ذاته، مديحاً لمحمد سعيد الصكَار، و أقلامهِ القصبِ، قبل أن يدخل بكل بهائه، العالم الثوريَّ للكمبيوتر، متخطياً، بخطِّهِ ذي الأصلِ القصبِ، مصاعبَ و متاعبَ شتَّى.

غير أنني لا أزال اتذكرُ أن تعرُّفي على محمدٍ، و عِرفاني إيّاهُ، ارتبطا ارتباطاً لا فكاك منه، بالقصبة. فالصكَارُ ظلَّ حتى هذه اللحظةِ نحيفاً كالقصبةِ و إن كان في أيامٍ سوالفَ اشدَّ نحافةً، و أضنُّهُ اشار إلى هذا الأمر في معرض حديثه عن إرجاء ابيهِ إدخالهُ المدرسةَ،إذ اعتبرَ الأبُ النحافةَ سبباً كافياً في هذا الإرجاء.

كانت للصكَار، في محترفاتهِ، عدَّةٌ كاملةٌ من القصب، و كان يحمل هذه العدَّةَ إلى اماكن عمله، و أضُنّني لمحتُ بعضاً من هذه العِدَّةِ الكريمةِ في مكتبه بشارع بَرَّي المتفرع عن جادّة الشانزليزيه، قبل أن ينتقل بكل قضِّه و  قضيضهِ إلى ضاحية اوبرفيليه المعتبرة ضمن الحزام الأحمر الذي يزنِّرُ باريس، الإشتراكية، الآن.

القصبُ أصهبُ داكنٌ، نسميه قديماً القصبَ الفارسيَّ، له رائحةُ القُّنب المنقوع، و صِقالُ، الأنملةِ الأنثويةِ. طَرَفُ الكتابة مقطوعٌ في مَيَلانٍ مدروسِ، و محزوزٌ في المنتصف حزّاً دقيقاً لا يتجاوز خمسة مليمترات.

و أسألهُ ذات يومٍ، و انا احاول جاهداً استعمالَ إحدى قصباته:

انا لا اعرفُ كيف أُمسكُ بالقصبة!

يجيبني ضاحكاً، هادئاً، واثقاً بيُسر الجواب و صعوبته في آن:

خُطَّ نقطةً!

بعد ةعقودٍ و قراءات، و فلسفةٍ، عرفتُ العمقَ المبكرَ لعبارةِ:

خُطَّ نقطةً!

محمد سعيد الصكَر يعرف شغفي المبكر بالخطّ..

كان يقول إن شعرا البصرة( ابتداءً ببدرٍ العظيم) يحسنون الخطَّ.

لكني اصارحك القولَ يا محمد، إنني لم أُفلحْ حتى اليوم في أن أخطَّ نقطةً واحدةً وحيدةً من نقاطك...

و لم أُفلح، مثلك، في أن اجعل القصبةَ تتشرَّبُ المدادَ الذي تشرَّبتْهُ اسفنجةٌ او  قطنةٌ في غطاء الدواة!

نصفُ قرنٍ من معرفةٍ و صداقةٍ و رفقةٍ و حبٍّ، جمعَ بيننا. نحن الأثنين: محمدٍ و أنا.

بدأ نصفُ القرنِ هذا، في البصرة، في سوق هنودها، و تحديداً  في خان والدِ اسماعيل الجاسم، حيث كان زاهد محمد يقيم بين الغِرارات و البالات، يتنفس هواءَ الخان المتضوِّع بروائح شتىَّ، مُفَوَّفةٍ بقدر انواع البضاعة و الأفاويه.

آنذاك لم يكن للصكَار محتَرفٌ. و كانت صفة الشاعر لصيقةً به اكثر من صفة الخطّاط. احياناً كان يغتنم مناسبة استشهاد الحسين ليلقي قصيدة. بدرٌ فعلَ هذا مرَّةً. أمّا انا فلم تكن لي تلك العلاقة الواضحة، لا بالشعر و لا بالخط طبعاً. أعني ان الصكَار كان متقدِّماً عليَّ في العلاقة بالشعر، إذ ليس من الهَّين آنذاك، على اي امرئٍ، ان يلقي قصيدةً في مناسبةٍ اجتماعية مرموقة مثل ذكرى استشهاد الحسين.

*

في الحياة، مفاجآت صغرى، و  مفاجآتٌ كبرى.

المفاجآت الكبرى في علاقتي بالصكَار، كانت حين وجدنا نفسينا، في صيفٍ متوسطيٍّ رائق، ندخل سفينةً روسيةً، راسيةً في ميناء اللاذقية، لتحملنا إلى ميناء اوديسّا على البحر الأسود، و لنصعد من هناك إلى موسكو، في قطارٍ عجيبٍ ، لنحضر مهرجان الشبيبة العالميّ.

كان ذلك في العام سبعة و خمسين و تسعمائة و ألف.

أمّا المفاجأة الكبرى التي باغتتنا، و رسمتْ إلى مدىً بعيدٍ، خطَّ حياتنا، فهي اننا آنَ عدنا من سكرة المهرجان عرفنا ان موظفاً بميناء اللاذقية باع إلى السلطات العراقية قائمةً كاملةً بأسمائنا، نحن المغادرين إلى موسكو.أُرسلَ اثنان من اعضاء الوفد في عودة اختبارٍ محفوفةٍ بالخطر إلى العراق، فألقي عليهما القبض عند الحدود، و صدرت صحيفة"الشعب" لقاسم حسن، يتصدَّرها عنوانٌ بارزٌ يقول: "عائدون من موسكو يقعون في الفِخّ"!!.

تقرَّر بقاؤنا في سوريّا، و سكنّا بيتاً شاميّاً عتيقاً في حيِّ " الحريقة" خلف الجامع الأمويّ.

هذا البيتُ الشاميّ كتبتُ عنه في ما بعدُ قصيدة" خان ايّوب".

كان معنا في المنزل عبدالجبار وهبي و نظيمة وهبي و عبدالرحيم شريف، و محمد صالح العبلِّي و كاظم جواد و سلافة حجّاوي، و هاشم حمدون...( كم الذاكرةُ مرهَقة مرهِقة!).

و تمضي بنا الأيام، بين أزقة دمشق القديمة و مقاهيها الرخيصة، و لفّة الفلافل، و بطحة العَرَق التي نتوزّعُها. أما البيتُ الذي يسكنه " احرار العراق" كما كنّا نسمَّى رسميّاً، فقد شرع يفقد ساكنيه تدريجياً. عددٌ منهم عاد متسللاً ليواصل العمل السريّ، بعضهم التحق ببعثةٍ من بعثات الدول الإشتراكية، كما اشتغل عددٌ منا في سوريّا، و كان من نصيب الصكَار ان يعمل معلِّماً  في مدرسةٍ بقرقانيا، من أرباض حلب، على الحدود السورية-التركية.

أما انا فقد طرتُ إلى الكويت، لأعمل مدرِّساً في متوسطة الفروانية هناك.

من الكويت، بدأتْ مراسَلةٌ بيننا، لم تقطعها إلا عودتُنا إلى العراق، بعد ثورة 1958، و لم اعرفْ حجمَها و طرافتَها، إلا بعد أن قدَّم لي محمدٌ، ربما  قبل عشرة اعوام بباريس، مجلَّداً من صُنع يديه، ضمَّ الرسائل العزيزة تلك. لستُ ادري إن كان الصكَار لا يزال يحتفظ بالمجلد الأثير، و إن كنت واثقاً، الثقة كلًّها، بحرصه على التوثيق.

الصكَار زار قرقانيا، في الأعوام الأخيرة، كما بلغني.

انا مررت بطريقها المتفرع و لم أبلغْها. و فروانيةُ الكويت لم اعُدْ إليها منذ غادرتُها، و إن ظللتُ اتتبع أخبارها، و ما آلت إليه. إنها الآن ضاحيةٌ يسكنها الأغنياء، بينما كانت في تلك الأيام، قريةً موحشةً متصلة بالصحراء، نمتَحُ ماءَ قليبها، و تزورنا ضِبابُها، و يُعمينا رملُها في حركة الريح. كان في الفروانية دكّانٌ واحدٌ.

*

هل للصكَار منزلةٌ في الخط العربيّ؟

السؤالُ يبدو نابياً للوهلة الأولى، لكنه سؤالٌ مشروعٌ إذا اتبهنا إلى أن الخطَّ، فنّاً، هو الفن التشكيليّ الوحيد في منظومة المواضعات العربية-الإسلامية، و إلى ان الأجيال المتعاقبة ظلّت تُقَعِّدُ قواعده، و تجوَّدُ فيه و تبتكر، و بخاصةٍ في أيام ازدهار الخط العظمى، زمن الخلافة العثمانية.

إذاً، يمكن القول إن تَبَوُّءَ خطاطٍ منزلةً في تاريخ لخط العربيّ، لهو أمرٌ عسير.

ماذا فعل محمد سعيد الصكَار؟

أعتقدُ ان ما فعله أبعدُ بكثير من مجموعة خطوطه المكيّفة للكمبيوتر، عبر مؤسسة "ديوان"، أبعدُ بكثير و أعمق، فليسوا قلائل اولئك الذين طوَّعوا، هُم ايضاً، خطوطَهم للكمبيوتر.

أحسبُ ان ما فعله، كي يتبؤّا منزلته المرموقة، هو انه حرَّر الخطَّ العربي، و منحه مشروعية الحركة النابعة من صفاتٍ كامنةٍ فيه.

حرّرَ الكوفيَّ من صلادته و زخرفيّته.

حرّر الديوانيَّ من شجريّته.

حرَّر الرقعة من كتلته.

و أطلق الفارسيّ مجنّحاً.

ثم حاول ان يمزج هذه الخطوط كلَّها في صبوةٍ مُغّناةٍ

ألهذا ابتعد الصكَار ( خارج الكمبيوتر) عن النُّسخِ و الثُلث؟

هل رأى الصكَار أن النُّسخَ و الثلث نضجا حدَّ الإحتراق، كما جرى للنحو؟

أوَ ليسَ النُّسخ  ابجديتَنا المألوفةَ حتى الآن؟

ترى.... ألهذا أسمي ما فعله ابجديةً جديدةً؟ أبجديةَ الصكَار؟

لتَسْلَمْ يُمناكَ يا محمد!

أذكرُ أنّا  كنا، معاً بباريس، يوم اسَّاقطت القنابلُ على البصرة، في السابع عشر من كانون ثاني،1991...

بعدَها تعطّلتْ يُمناك. لم تعد قادراً على استقطار النقطة، أو استحضار الباء، باء البصرة أو بغداد.

اذكرُ أن هذا الكل استمرَّ حيناً، فلجأت إلى الكمبيوتر و فأرته، متباهياً ببديلٍ كنتَ تعرف جيداً انه ليس البديل.

كم أحببتَ تلك المدينةَ الوديعةَ، النائمةَ عند النهر، المتمددةَ حتى البحر!

كم أحببتَ الأرضَ، و الناسَ و الطريقَ التي سلكتَ!

كم عنيدٌ أنت ايها النحيلُ، و كم سخيٌ انتَ ايها المعدَم!

فنُّك الرفيعُ الذي تنفتح له الأبوابُ العربيةُ من تلقاء نفسها،أجْلَلْتَه، و أحللتَهُ التّلْعةَ، فلم تضعه في خدمة المستعمرِ و الرجعيّ... بينما اناسٌ كثرٌ، يتنافسون حدّ الإستقتالِ في خدمة المستعمر و الطاغية و الرجعيّ.

ألم توْدِعْ، يا محمد، محاميَ باريسَ، وصيّتك؟

ألم تقلْ في وصيَّتك، إنك- و ليُطيلَنَّ الله في عمرك- لو رحلتَ، فان مثواك لن يكون في ارض العراق، إلا إذا رحل عنها صدّام السافل؟

انتَ، في ما اوصيت، صنوُ بيكاسو.

صنوُ الجواهريّ، الذي يرقد في تربة زينب الحوراء،جوار أمينة، حيث مقبرة الغرباء...

لتسلمْ يمناك يا محمد!

و لتسلمْ لي، صديقاً فرداً.

لتسلمْ لنا، يا محمد، نحن العراقيين، المتناثرين تحت كل نجم!

و لتكن واثقاً، يا رفيق الرحلة العظمى، يا رفيق العمر،

و البيرق الأحمر، و النهرِ المتطامنِ...

لتكن واثقاً بالعودةِ البهية،

العودةِ إلى الروحِ،

حيث كلُ ارضٍ، سماء....

 

لندن،17.04.2001

اخر تحديث السبت, 03 أكتوبر/تشرين أول 2020 13:59