أولادُ الشيخ ... طباعة

سعدي يوسف

أتحدّث عن قضاء أبي الخصيب ، جنوبيّ البصرة ، في الأربعينيّات ، حيث كانت أسرتي تمتدُّ ما بين حمدان التي على النهر، والفاو التي على البحر ، مروراً بالسيبةِ ، الضفةِ العراقية لشطّ العرب .

آنَها كنت أتممتُ المدرسةَ الإبتدائية ، في ( المدرسة المحمودية ) التي عرفتُ قبل سنواتٍ أنها هُدِمَتْ . لقد شعرتُ بالأسى ، حين بلغَني الخبرُ ، لأن " المحمودية " كانت قصراً جميلاً لأحد وُجهاءِ أبي الخصيب ، تبرّعَ به ليكون مدرسةً . هذه المدرسة تقع عبر جسرٍ صغيرٍ من الخشب ، يطلُّ على منزلٍ ذي شناشيل . " شناشيل ابنة الجلبي " لبدر شاكر السياب آتيةٌ مع أمطارِها الذهبِ ، من ذلك الموقع .

*

لا أريدُ الـمُـضِيَّ بعيداً مع الذكرى الغامضة .

هنا ، أريدُ التحدثَ عن أولاد الشيخ .

الشيخ هو عبد القادر النقشبندي ، القادم من السليمانية بالشمال العراقيّ ، ليتولّى شأنَ " التكيّةِ النقشبندية " في أبي الخصيب .

والأولادُ ( حسب أعمارهم ) هم: بُرهان ، عثمان ، عاصم ، محيي .

بُرهان كان معلِّماً ، أُبعِدَ بسبب من أفكاره اليسارية من السليمانية ، إلى أبي الخصيب ، ليـــرِثَ عن أبيه المتوفّى ، التكيّةَ .

أمّا عثمان وعاصم ومحيي ، فكانوا في مثل سنِّي . وكنّا نقضي أوقات فراغنا في التكيّة ، نقَلِّبُ مخطوطاتٍ وكتباً لا نفقه منها شيئاً ، ونسبح في النهر المتفرع من شط العرب ، النهر الذي تقع التكيّةُ عليه .

لكن بُرهان ، شيوعيّ .

هكذا تلمّسْنا في وقتٍ أبكرَ من اللازم ، أموراً خطرةً ، وتنفّسْنا هواءً سيظلّ في رئاتنا حتى النهاية .

المنشورات السرّيّة يؤتى بها إلى التكيّة التي صارت مركز توزيعٍ لهذه الأوراق الشفيفة الخفيفة التي تُنقَل من البصرة إلى أبي الخصيب .

التكيّة ذات تاريخٍ مجيد في التضحية بالنفس :

مرّةً ألقى أحدُ مُريدي الشيخ عبد القادر الجيلاني ، الخصيبيّين ، بنفسه ، من سطح التكيّة ، مؤمناَ بأنه سوف يطير ، بعد أن بلغَ به الوجدُ منتهاه .

لقد أنهى حياته مهشَّماً ...

*

لم يمكثْ بُرهان طويلاً في أبي الخصيب . لقد ضاق ذرْعاً بالتكيّةِ ، بعد أن شرعَ صِيتُها يخفُتُ إثرَ وفاة الشيخ الأب عبد القادر النقشبندي .

عثمان ، ابتعدَ عن التكيّةِ ، ثم رحلَ عن أبي الخصيبِ ، إلى السليمانية .

عاصم ، وكان في مثل سِنّي ، تولّى أمرَ التكيّة النقشبندية ، التي تُسمى باللغة الكرديّة " خانقاه " كما أخبرني زميلي في الطلب ، د. عز الدين مصطفى رسول .

لم يكن عاصم متديِّناً .

لكنّ التكيّة تظل لأولاد الشيخ !

*

الأيّامُ تتدافعُ ، ومعها السنون ...

ونهجرُ مرابعَ أبي الخصيب ، واحداً بعد آخر .

أولادُ الشيخ شطّتْ بهم الدنيا ، فتفرّقت السُّبُلُ ، وتقَطّعت الأسبابُ .

ولم يتبَقَّ من " الخانقاه " سوى تهاويلَ من صورٍ غائمة .

لقد نأت التكيّةُ ، كما نأت طفولتُنا ، كما نأى " أبو الخصيب " وأنهارُه ذواتُ الشميم من طَلْعٍ وسَمَكٍ وطحالبَ .

*

مرّةً ، وأنا في حاضرةٍ من حواضرِ أوربا ، كنت أتسامرُ مع صديقٍ عن التكيّة النقشبندية العجيبة ، وعمّن ظلّ حيّاً من أولاد الشيخ .

قال لي هذا الصديق :

أتعرفُ ؟

مُحيي ( الأصغر ) يمتلك الآن مطعماً في بولندا !

أين ؟

في بوزنان ...

 

2016.07.01

اخر تحديث الأربعاء, 02 يناير/كانون ثان 2019 06:28