" قلبُ الظلام " ... مع باتْرِكْ كوكبورنْ طباعة

ترجمة وإعداد : سعدي يوسف

(4)

النجفُ ليست بعيدةً ...

مع أزيز الطلَقاتِ الأولى ، بدأ الزوّارُ السائرون ، يركضون فزِعينَ على الطريق ، متشبّثين ببيارقهم وطبولِهم ، باحِثين عن مستتَرٍ .

نحن  ، بدورنا ،كانت لدينا الفكرةُ ذاتُها ، إذ انحرفْنا عن الطريق ،  لنختبيءَ خلفَ الجانب البعيد للمسجد.

فوقَنا ، كان رجالٌ يرتدون السواد يتسابقون في اعتلاء الجدران ، ويتّخذون أوضاعَ  رِمايةٍ . ثمّتَ آمرٌ يلَوِّحُ بمسدّسه ، ويصدرُ أوامره إليهم . بمواجَهة التهديد المشترَك الذي نتعرّضُ له ، صارَ المسلّحون الذين كانوا يتداولون أمر قتلنا ، أقربَ إلينا ، حتى أننا تقبّلْنا وجهةَ نظرهم . هناك نقطةٌ ظلّوا يردِّدونها على مسامعِنا :

" من الخطأ النظرُ إلينا باعتبارنا ميليشيا . نحن جيش " .

هم يقولون إنهم ليسوا مجرَّد قوّة دفاعٍ شيعيّة . إنهم جيشٌ حقيقيّ في خدمة الإسلام ، وزعيم المسلمين في العالَم ، مقتدى الصدر .

ظللنا محتمين بالمسجد ،  ننتظر نهاية تبادل إطلاق النار . وكنت ، آنَها ، أفكِّرُ بمقتدى الصدر ، وكيف استطاع أن يُلهِمَ شُبّاناً ليستدينوا أجرة النقل ، كي يلتحقوا بالقتال ،  وليموتوا ، من أجله ، إن استدعى الأمرُ ذلك .

رجالُ الشرطة والجيش  العراقيون ، الذين يدرِّبهم الأميركيون ، كانوا أشدّ إلحاحاً على تسلُّمِ مرتّباتِهم ، وهم يقولون بصراحة إنهم يفعلون ما يفعلون لإعالة أُسَرِهم ، وهم غير مستعدّين للموت من أجل أيّ أحدٍ.

ظلّ الرئيس بوش ، وتوني بلَير ، يردِّدان أن القوّات الأميركية والبريطانية ستغادرُ حين  يكون العراقيون قادرين على تولِّي أمورهم بأنفسهم . يبدو أنهما لم يفهما ، البتّةَ ،  أن المشكلة ليست في التدريب والتجهيز ، وإنما في الولاء والشرعيّة . قليلٌ من العراقيّين خارج كردستان رأوا  الاحتلالَ  ذا مشروعيّة . لهذا لم يمنحوا الاحتلالَ ولا الحكومات العراقية التي شكّلَها الاحتلالُ ، ولاءَهم . ربما كان السيد عبّاس يقود شراذمَ خطِرةً ، لكن هؤلاء يؤمنون بأن قضيّتهم ليس عادلةً فقط ، بل أنها تحظى بتأييد من الله ، ولهذا فهم مستعدّون للموت في سبيلها .أخيراً ، توقّفَ إطلاقُ النار في الجانب الآخر من مسجد مسلم بن عقيل . نظرنا ، بحذر ، من الركن ، فلم نستطع أن نرى شيئاً ، بسبب سعف النخيل الكثيف على ضفاف الفرات .

بدأ الزوّارُ يعودون إلى الطريق مواصلين  رِحلتَهم .

لم يُقتَل ، أحدٌ ، أو يُجرَحْ .

لذا كان الكثيرون يضحكون مرتاحين بعد عناء .

السيد عبّاس عاد إلى سيّارته ، ليقودنا إلى النجف .

كنا ننطلق بسرعة . واضحٌ أننا لم يكن بمستطاعنا متابعة الرحلة لولاه .

كانت هناك نقاط سيطرة عديدة لجيش المهدي ، ولعدة مرّات هُرِعَ المسلّحون لإيقافنا ، لكنهم سرعان ما كانوا يعودون حين يرون وجه السيد عبّاس يطلُّ عليهم من نافذة سيّارتِه .

النجف ليست بعيدةً .

في العام 661 الميلادي ، قتَلَ خارجيٌّ اسمه ابنُ مُلْجِم ،  بسيفٍ مسمومٍ ، الإمامَ عليّ بن أبي طالب وهو ماضٍ  يؤدي صلاةَ الصبح .

سيفُ ابن ملجم المسمومُ ارتطمَ بالإطار الخشبِ للباب ، لذا لم تكن الضربةُ قاضيةً في حينِها .

جُرِح الإمام عليّ جُرحاً بليغاً ، وماتَ بعد يومَين .

كان لدى الإمام عليّ الوقتُ ليوصي أتباعَه ، بأن يحملوه ، بعد موته ، على جَملٍ ، ويتركوا الجملَ يسير حتى يتوقّفَ بنفسه .

وحين يتوقّفُ الجملُ أخيراً  ...

عليهم أن يحفروا قبره و يدفنوه هناك .

الجمل لم يرحلْ طويلاً .

توقّفَ على مَبعدة ستة أميال من الكوفة ، على مشارف الصحراء .

ولقد دُفِن عليٌّ في البقعة ذاتِها .

مع مَرّ القرون صار القبر مزاراً ، وصارت النجف مدينةً حوله ، يؤمُّها ملايين الزوّار .

 

لندن في 30.08.2017

اخر تحديث الثلاثاء, 03 أكتوبر/تشرين أول 2017 20:45