قلبُ الظلام ، مع باتْرِكْ كوكبورْن |
ترجمة وإعداد : سعدي يوسف (1) الطريق إلى الكوفة " إنه جاسوسٌ أميركيٌّ ! " هكذا هتفَ أحد أفراد جيش المهديّ ، وهو ينحني في نافذة سيّارتي ، ويخطف كوفيّتي الحمراء/ البيضاء التي كنتُ أعتمرُها ، متَخَفِّياً . كان ذلك في التاسع عشر من نيسان ( أبريل ) 2004 ، وكنت أحاولُ بلوغَ المدينة المقدّسة ، النجف ، حيث مقتدى الصدر ، رجل الدين الشيعيّ الغامض ، الذي قد كان سيطرَ على مُعْظم العراق الجنوبيّ في أوائل الشهر ، مُحاصَرٌ ، الآن ، بقوّاتٍ أميركية وإسبانيّة . و قد كان جنرالٌ أميركي قال إن مقتدى الصدر سوفَ يُقتَل أو يؤسَر . كنت أعتمرُ الكوفيّةَ لأن طريق الـ 63ميلا ، من بغداد إلى النجف ، يمرّ عبرَ سلسلةٍ من بلداتٍ سُنّيّةٍ متعصِّبة ، بالغةِ الخطر ، حيث تعرّضَ أجانبُ للهجوم . أنا أبيضُ البَشرة ، وشَعري لونُه بُنّيٌّ خفيفٌ ، لكني ظننتُ أن الكوفيّة قد تُقْنِعُ أيّ امريءٍ ينظرُ إلى السيّارة بأني عراقيٌّ . الكوفيّةُ ليست للتفتيش الدقيق . كان علَيّ أن أكون أكثرَ تحَوُّطاً . كنتُ أسافرُ في سيّارة مرسيدس من الطراز غير المستعمَل كثيراً في العراق ، وهو طرازٌ يسترعي الإنتباه بيُسْرٍ. كنت أجلسُ في الحوض الخلفيّ لأكون أقلَّ انكشافاً . في المقعد الأمامي ، كان حيدر الصافي ، وهو شخصٌ بالغُ الذكاء ، وهاديء المزاج ، في الثلاثــين من عمره وهو مترجِمي ودليلي . كان مهندساً كهربائيّاً ، وفي أيام صدّام حسين كان يديرُ شركةً صغيرةً لتصليح آلات الإستنساخ . حيدر الصافي يسكن في حيّ الكاظمية الشيعيّ ببغداد ، حيث أحد أهم المزارات الخمسة للشيعة في العراق . لم يكن يحتسي الخمر ، ولا كان يدخِّنُ ، لكنه كان علمانيّاً في نظرته العامّة . أمّا سائقي فهو باسِم عبد الرحمن ، الأكبر سنّاً قليلاً من حيدر الصافي ، و ذو الشَعر القصير جداً . إنه سُنّيٌّ من غربيّ بغداد ، وقد أثبتَ هدوءَ أعصابه قبل عشرة أيّام ، عندما وقعْنا في كمينٍ منصوبٍ لقافلة من سيّارات الوقود الأميركية ، قرب أبو غرَيب ، على طريق الفلّوجة . خرجنا ، نحن الثلاثة ، من السيّارة ، وانبطحْنا على الأرض ، إلى أن توقّفَ إطلاقُ النار فترةً ، فقاد باسمُ السيّارةَ ، ببُطْءٍ ، وعَمْدٍ ، عبر مجموعاتٍ من القرويّين المسلّحين الذين كانوا يندفعون للمشاركة في القتال. تمدّدت في الحوض الخلفيّ للسيّارة ، آمِلاً في أنهم لن يكشفوا أنني أجنبيٌّ . جئنا عبرَ أفراد ميليشيا جيش المهدي ، ذوي القمصان والسراويل السود ، ونحن على مشارف مدينة الكوفة الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات ، على مبعدة أميالٍ قليلة من النجف . كانوا واقفين أو متربِّعين على التراب ، على جانب الطريق قبل أن ينعطف إلى الكوفة ، حيث الجسرُ يصِلُ ضفتَي النهر . كانوا شبّاناً مسلّحين جيّداً ببنادق الكلاشنكوف ، بينما تتدلّى قاذفاتُ الآر. بي . جي على ظهورهم ، وتنحشرُ المسدّساتُ في أحزمتهم . كثيرٌ منهم كانت أحزمة الرصاص متصالبةً على صدورهم . كانوا كثيرين جداً على نقطة تفتيش عاديّة . كانوا مستنفَرين ، عصبيّين ، لأنهم توقّعوا أن الجنود الأميركيّين قد يهاجِمونهم في أي لحظةٍ . في البعيد ، كنت أسمع قعقعة النيران ، شمالاً ، على امتداد الفرات . لم تكنْ لنقاط التفتيش في العراق ، آنذاك ، السمعة التي اكتسبتْها لاحقاً ، في كونها أماكنَ تعذيبٍ ، تديرُها فِرَقُ موتٍ ببزّاتٍ عسكريّة أو بدونِها ، متلهِّفةٌ إلى قتل أو تعذيب شخصٍ ما . ربّما خلدْنا إلى الطمأنينة لأننا خلّفْنا وراءَنا ، البلداتِ المتجهمة : المحموديّة والإسكندريّة واللطيفيّة ، حيث الإختناقات المروريّة الدائمة ، تسمحُ بأن يكون التدقيق أقلَّ . كما أن هناك هدنةً . فاليوم هو مولدُ النبيّ . وقد أعلنَ الناطق باسم مقتدى ، في النجف ، الشيخ قيس الخزعليّ ، توقُّفَ القتال مع الأميركيّن لمدة يومين ، احتراماً لهذه المناسَبة ، وحمايةً للزوّار المتدفقين على المدينة لإحياء الذكرى .
لندن في 26.08.2017
|
|||
اخر تحديث الأربعاء, 13 شتنبر/أيلول 2017 08:14 |