عبد الأمير الحُصَيري : أسطورةُ الشاعر طباعة

سعدي يوسف

في العام    1960  ، كان اتحاد الأدباء في عام تأسيسه الأول ، وفي المبنى الذي كان نادياً لِعِلْيةِ القوم في بغداد الملَكيّةِ .

إلى يمين المدخل ، مكتبة الإتحاد .

عبد الأمير الحصيري ... أمينُ مكتبة الإتحاد الوليد.

كان عبد الأمير جاءنا من النجف ، فتىً حيِيّاً ، لا يكاد يرفعُ عينيه أمام الكبار ، بل انه يُغضي حياءً ، ويتورّدُ وجهُه ، إن مازحَه

الجواهريُّ مثلاً .

في النجف ، كان عبد الأمير ، أصغرَ مُنضِّدِ حروفٍ في مطبعة الحزب الشيوعي السرّيّة .

إذاً : عبّودي جانا من النجف شايِل مكَنْزِيّة !

*

ولِدَ عبد الأمير في النجف ، العام 1942 ، ورحلَ عنّا في فندق الكوثر الشعبيّ بالكرخ في العام 1978 .

دخلَ اتحادَ الأدباءِ فتىً ، وخرجَ منه نعشاً محمولاً إلى مقبرة  وادي السلام بالنجف.

كنت مع مُوَدِّعيه ، بعد أن كنتُ استقبلتُه آنَ جاء إلى بغداد.

ألقَيتُ كلمةً على قبره ، مستشهِداً بأشعاره :

ومن فؤادي أصيحُ يا نجفُ !

*

أنا من الذين ظلّوا يراهنون على عبد الأمير ، شاعراً ، وإنساناً . وظللنا صديقَين . في أواخر السبعينيّات ، حين زاد الهواءُ اختناقاً ، جاءني عبد الأمير ، ينصحُني بألاّ أقود سيّارتي في ليل بغداد الملتبس . قال لي : يريدون قتلك !

ظننتُه يمازحُني .

لكني ، في ليلةٍ شديدةِ القَرِّ ، وأنا أقود سيّارتي في شارع الكفاح ، فزِعْتُ إذ رأيتُ الكابحَ معطّلاً . استخدمتُ الكابح اليدويّ ( الهاندْ بْرَيك )

ولم أصدِّقْ أنني نجوتُ من موتٍ محقّق . عند مُصَلِّحِ السيّاراتِ عرفتُ أن شخصاًما عطّلَ الكابحَ سرّاً .

*

في تلك السنوات ، كانت ،  حالة عبد الأمير تسوءُ أكثرَ فأكثرَ ، وصار الناسُ الذين انحرفوا به عن سواءِ السبيلِ ، يضيقون به ذرعاً .

أحياناً ، كنتُ أمرُّ بمبنى الإتحاد عائداً إلى منزلي بحيّ ( زيّونة ) ، فأرى كومةً سوداءَ عند الباب الحديد للإتّحاد . أتوقّفُ لأرى عبد الأمير  الحصيري ، متهاوياً ، وقد أدمى وجهَه الضربُ .

رفاقُه في اتحاد الأدباءِ ، هم مَن أشبعوه ضرباً !

آخذُه معي بالسيّارةِ ، أمضي به إلى بيتي ، أُبدِلُ ملابسه ، بعد الحمّامِ . جيوبه ملأى بالقصائد . كنت أحتفظُ بقصائده . أهديتُه عدّة حلاقة

جيدة ، لكنه ، بعد أقلّ من شهرٍ ، باعَها بنصف دينار ، فعادَ وجهه البهيّ إلى سيماء الصعاليك .

*

فنّيّاً  ، ظلَّ عبد الأمير الحُصَيري مقلِّداً .

صحيحٌ أنه كان يقلِّدُ الكبارَ من المتنبي إلى الجواهري ، لكن هذا لن يغيِّرَ من الأمر شيئاً : التقليدُ هو التقليد .

*

ماذا تبَقّى لنا من عبد الأمير الحُصَيري ؟

أزعُمُ  أن أسطورةَ الشاعر ( لا الشاعر ) هي ما تبَقّى لنا  من عبد الأمير ، عامل المطبعة الشيوعيّة الفتى ، حِلْسِ الليلِ ،

وأمير الحانات الرخيصة ، الذي لم يُرِحْ رأسه إلاّ في مقهى حسن عجمي  ، وفي وادي السلام  حيثُ يثوي ...

*

عبّودي جانا من النجفْ

ومنَكِّس عقاله ...

فسَّدْ بناتِ الطرَفْ

هوَ وابن خالهْ !

 

تورنتو / الجمعة اليتيمة / 18 نيسان 2014

اخر تحديث الخميس, 30 مارس/آذار 2017 07:39