العودة إلى الأرض الإيرلنديّة |
سعدي يوسف كنت في هامسْتِيد ، من أعمال لندن العريقة ، في زيارة لمنزل رسّامٍ إنجليزيّ صديقٍ ، اسمه نوَيل ، وهو من جيل الستّينيّات الذي كاد يغيِّرُ وجه بريطانيا المغضّن ، ويستبدل بغضونِه فتوّةَ فنٍّ وأغانٍ . في مكتبة الرجل ، التقطتْ عيناي كتابَ شِعر ، سألتُ نُوَيل عن المؤلف ، قال : الكتاب مهدىً من الشاعر. لقد كنا صديقَين . استعرتُ الديوان من نوَيل ، وهو " قصائد مختارة - ريتشارد تِلِنغاسْتْ " 2009 Selected Poems , Richard Tillinghast First published in 2009 , By Dedalus Press , Dublin , Ireland الشاعر وٌلِدَ في ممفيس ، تنِسِّي ، درّسَ زمناً في جامعة أن آربَر ، في مشيغان . لكنه أحسَّ ، مع الأيّام أنه من إيرلندة ، لا من الولايات المتحدة . هكذا انتقلَ مقاماً وكلاماً إلى الأرض الإيرلندية . عليَّ أن أذكر عن ريتشارد أنه مهتمٌّ بالآداب الشرقية ، وبالشِعر التركيّ تحديداً . من ديوانه هذا " المختارات " ، انتقَيتُ قصيدةً أقدِّمُها لقاريء " الأهرام العربيّ " بُغْيةَ تنويعٍ ما في الإطلالةِ على المشهد الشِعريّ ، هذا المشهدِ الذي شحبَ عندنا إلى حدٍّ مؤلِمٍ .
اليومَ في " مقهى تريستهْ " خلف البوّابات الصبيغة بالأحمر تُرِكَ الخمرُ ليحمض ، واللحمُ ليتعفّنَ. خارج هذه البوّابات عظام المتجمِّدين والجياع. قدَمٌ واحدةٌ فقط تفْصِلُ بين المزدهِر والذاوي . التفَكُّرُ بالأمرِ يُمْرِضُ . الشاعر تو فو ، من القرن الثامن * ربّةُ الجبل ، إنْ كانت لاتزال هناك فلسوف ترى العالَمَ وقد تغيّرَ تماماً . ماو تسي تونغ 1956
اليومَ ، في مقهى تريستهْ ، سان فرانسسكو أرقَبُ عبرَ النوافذِ الهشيمةِ المخْضَلّةِ السماءَ التي لاتكشِفُ شيئاً و لا تشبِه شيئاً . ثمّتَ وجهٌ في المرآةِ وجهُ شخصٍ ما ، للحظةٍ ، وأنا أطلبُ قهوةً . خطُّ ابتسامةٍ يحِزُّ لحمَ الجهة اليسرى ، مثل نُدْبةٍ في وجهٍ كان متوازناً ، كما لو أنّ كلَّ ما ابتسمتُ له لثمانيةٍ وثلاثين عاماً ، أو تقَبّلْتُهُ ساخراً يجْذبني نحو جهةٍ من الكونِ. وجهي يُعِيْدُ نظرتي إليّ . أنزلِقُ ، ثانيةً ، فيها . الضوءُ ينزلِقُ من نظّارتَيَّ ، الضوءُ البحريّ في الأصيلِ الساخنِ أسطعُ من الخمرِ التي احتسَيتُها البارحةَ . * السيّدة جيوتا تقول شيئاً بالإيطاليّةِ : الحياة ،La vita أو العالَم Il mondo أظنُّ ما كانت تقوله كان كأساً صُلْبةً جيّدةَ الصُّنعِ . هذه السيدة الإيطاليةُ تضعُ كأساً دافئةً من شيءٍما ، أمامكَ . فتعرف أنت أن العالَم سليمٌ . إن اختلَّ نظامُ العالَمِ ، فالكأسُ ستكون أوّلَ ما سيتحطّمُ .
ساهياً ، أراقبُ الكنّةَ الآتية من شماليّ إيطاليا ، تفتح غسّالةَ الأطباقِ وتُخرِجُ صينيّةً على عجلاتِ لدائنَ ذات بوصةٍ واحدةٍ _ صينيّة أطباقٍ مثل حكايةٍ عن مستقبل العالَم ، مثل جنائن بوينس آيرس المسوّرة حين نشاهدها من طائرةٍ خاصّةٍ .
في أعالي الجهاز البخاريّ الأخضر بُحيراتُ يشَبٍ ، وأنصافُ أقمارٍ من ماءٍ ساخنٍ يَبْرَدُ نبْعُ غابةٍ ، يُصَعِّدُ بخاراً صافياً في المقهى . الكنّةُ تضخُّ ماكنة الإسبرسّو مثل سيّدةٍ مهندسةٍ في مقصورةِ قاطرةٍ بخاريّةٍ في إيطاليا ، بعد الثورة .
أنا أجلسُ عند طاولتي المفضَّلة .
في التاسع من أيلول 1976 ، قبل سنينَ ثلاثٍ أخبرتْني صحيفةُ امريءٍ سواي أنّ ماو تسي تونغ مات منذ عشر دقائقَ ، ذاكَ اليومَ .
أنا أجلسُ عند طاولة الركنِ إيّاها ، أنظرُ في الصورِ الصحافيّةِ ، وأراقبُ السماءَ تنأى ساريةَ علَمٍ خشباً سقفاً غوطيّاً مترجِّحاً في الزجاجِ العتيقِ .
|