صِفَتان لا ثالثةَ لهُما ... طباعة

سعدي يوسف

جوناثان رابان مؤلف كتاب " الجزيرة العربية تحت المجهر"  سافرَ بالسيّارة ( طبعاً ) من أبو ظبي إلى دُبَيّ .

وقد رافقه في الطريق الصحراويّ المملِّ مهندسٌ أردنيٌّ  ، يعمل في التصوير ، ويمتلك منزلاً  في سَرِّيSurrey

البريطانية ، غير البعيدة عن لندن  التي كان تخرَّجَ فيها قبل أعوام.

كان الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث ( كما يقال ) ، عن العلاقة بين العرب والإنجليز من جوانبِها الإنسانية .

المهندس الأردنيّ ، المتكلِّم ، طليقاً ، باللغة الإنجليزية ، روى لرفيق سفره ، حكايةً طريفةً ، عميقةَ المغزى :

العامَ الماضي ، ذهبنا ، أنا وزوجتي ، وطفلتنا ، إلى جزيرة " كْرِيت " في سفرة مجموعةٍ . كان مطارنا جــــــــاتوِكْ ،   Gatwick ، وكنا نعرف أن التأخير يَحْدث دائماً هناك . أمضَينا نهارَنا كلَّه في المطار قبل انطلاق رِحلتِنا . كل فردٍ من المجموعة المسافِرة كسبَ أصدقاءَ ، وكانت طفلتُنا تحظى بمداعبة النساء الإنجليزيات ومناغاتهِنّ . كانت العلاقة  رائعةً مفعمةً دفئاً . كان الناس مهتمِّين بلهجتنا ( لكْنتِنا ) ، وسألوني : أأنتم فرنسيّون ؟ وقال آخرون : أنتم ، إذاً ، إيطاليّون !

أجبتهم : في الواقع ، أنا عربيٌّ أردنيٌّ ...

وتابعَ المهندسُ حديثه مع المؤلف ، قائلاً :  ربما كان بمقدورك إخفاءُ مشاعرِكَ ، او الابتسام بالرغم من الصدمة ، لكن أولئك الناس لم يستطيعوا إخفاءَ مشاعرهم . لقد فغَروا أفواهَهم ،  وتجمدتْ

وجوهُهم بمجرد سماعهم كلمة " عربيّ " . هل أقول لك إنهم لم يتكلّموا معنا في ما بَعدُ . هنا نحن ، في الطائرة ، وهناك في الفندق ، في كل مكان ...

لكنْ ليس من كلمة . حتى واحدة .

لقد انزعجتْ زوجتي لهذه المعاملة ،  إلاّ أنني وجدتُ الأمرَ مُسَلِّياً !

في جاتْوِك ، العربيّ لدى الإنجليز ، إمّا  " إرهابيٌّ " أو " مليونير "  . وهذا يعني أنك لستَ من البشَر .

*

أعودُ إلى حالي :

في الأول من نيسان ( أبريل )  2004 ، دخلتُ المنزلَ الذي ما زلتُ فيه ، بعد أن كنتُ أسكنُ استوديو

ذا غرفة واحدة ، أقرب إلى وسط لندن المتروبولِس .

بعد ثلاثة أيّام ، زارني مَن يقوم بإدارة الـمَرْبعِ السكَنيّ ذي الشقق الخمسين ، كان رجلاً بالغَ التهذيبِ ، والدماثةِ ، واللطفِ ، وليكنْ اسمه جونْ سْمِثْ .

كان اليوم أربعاء ، وهو الموعد الأسبوعيّ   لـفتحِ مَـشْربٍ صغير في مبنى الإدارة .

دعاني جون سْمِثْ إلى كأس .

لبّيتُ الدعوةَ شاكراً ، ومستغرِباً ، فالناس هنا أبعدُ ما يكونون عن دعوة شخصٍ غريبٍ مثلي ، على كأس.

بعد الرشفة الثانية ، سألني مُضَيِّفي : هل أنت من " القاعدة " ؟

توهّمتُ أنني لم أسمع السؤال ، حقّاً .

لكنه ظل ينتظر جوابي .

قلت لجون سْمِثْ متكلِّفاً الابتسامَ : لكن أهل "القاعدة " لا يَقرَبون مكاناً كهذا الذي نحن فيه !

ابتسمَ جون سْمِثْ .

وظلَتْ علاقتُنا  ممتازةً حتى غادرَ إدارةَ المِرْبِعِ السكنيّ ، متقاعداً .

*

إذاً ،  انتفتْ عني صفةُ " الإرهابيّ " ، وهذا أمرٌ حمدتُ الله عليه .

*

لكن الناسَ في هذه السكنى ، شغوفون بمراقبة ما يجري ، ومتابعةِ تفاصيل الجار :

كم مرةً يتسوّق في الأسبوع ؟ من تزوره من النساء ؟  وما هي أعمارُهُنّ ؟كم مرةً يسافر خارج المملكة المتحدة ، أو داخلَها ؟ إلخ .

وبما أنني كثيرُ الأسفار ، في دعوات ثقافية ، أو نزوات سياحيّة ...

ولأنني أمتلكُ سيّارةً ( على قِدَمِها ) .

ولأنني أتسوّقُ أكثر من مرَتَين في الأسبوع .

ولأنني أحظى بزيارات مرموقةٍ ...

فقد استقرَّ رأي الناس على أنني " غنِيٌّ " بل أكاد أكون " مليونيراً " ...

حمداً للّه :

صِيْتُ الغِنى ، و لا صِيْتُ الفقر !

*

الأمرُ صحيحٌ إذاً ... إرهابيٌّ أو مليونير !

 

لندن 30.01.2016

اخر تحديث الأحد, 10 أبريل/نيسان 2016 06:26