مع أمجد ناصر طباعة

الــفَــنُّ متمكِّــناً

( 1 )

كانت بيروت  ، حيثُ حللتُ ، في أواخر السبعينيات ،  مدينةً تنام على قلَقٍ ، وتصحو في الصباح على حدود .
أمّا نحن  الذين لُذنا  ، بِظَهْرِ النمِرِ  مَرْكَباً ،  فلقد كانت لنا  جمهوريتُنا  ، جمهورية الفاكهاني ، الممتدة بين جسر الكولا والشيّاح . ثمّتَ كنا نحلمُ ،  ونكتبُ ، ونحبّ ...
وثمّتَ أيضاً  ، كنا نُقتَلُ : غِيلةً حيناً ، وقصفاً إسرائيلياً أحياناً .
في هذا الاحتدام ، الذي يشدّ العصَبَ  حتى جنون التوتّر ، نشــرَ أمجد ناصر مجموعته الشعريةَ الأولى " مديح لمقهىً آخر " .

ربما لم تكن هذه المجموعة الأولى شديدة التميّز عن ســواها من أشعار تلك الأيام ، لكنها  حملتْ ،  بصورةٍ جنينيةٍ ،
مِيسَــمَ كاتبِها المبكرَ ،  المِيسَــمَ الذي سيتأكّد  أكثرَ فأكثرَ مع كل مجموعةٍ تجِدُّ ، " منذ جلعادَ وهو يصـعد الجبل " ، صعوداً حتى أيامنا هذه .
كنتُ أشرتُ إلى أن " مديح لمقهى آخر "  تحمل ميسَماً ما  .
 والحقُّ أن الإحاطةَ  بهذا الميسِم ليست بالنظرة العجلى . النظرةُ العجلى لن تأتي بشيء ، ما دامت  المجموعة الشعرية المذكورة ليست شديدةَ التميّز ، كما أسلفتُ .
إذاً ،  على المرءِ أن ينتزعَ  انتزاعاً  ، ما  يراه مؤشراً إلى آتٍ .
من جانبي ، رأيتُ ما حسبتُه ، مؤشراً ، ليس عن فرْطِ تفاؤلٍ ، وإنما عن  اقتناعٍ بما بين يدَيّ .
انتبهتُ في " مديح لمقهى آخر " إلى ما يأتي :
• شجاعة التحديق .
• الاهتمام بالنتوءات .
• الثقة بالنفس .

لقد انتبهتُ إلى أن صاحب المجموعة يملك عينين نفّاذتَينِ ، وإلى أنه يستخدم هذا العامل البصريّ ، بأمانةٍ وشجاعة ، وإلى أن النظر منصرفٌ ، حتى في تلك المرحلة المبكرة جداً ،  إلى ما هو ضروريّ .
وانتبهتُ أيضاً إلى أن أمجد ناصر  في محاولته الإحاطةَ بعالَمنا ، يتجنّبُ  الـمُوَطّـأَ  ، والممهّدَ من السبيل والـمرأى ، ويفضِّل الإهتمامَ بالنتوءاتِ  التي غالباً ما يتجنّبُها السُراةُ المترَفونَ ، الذين يخشَونَ على نعومةِ أقدامِهم .
وتلمّستُ في " مديح لمقهى آخر "  ثقةً بالنفسِ ، واضحةً ، ومُعْلَناً عنها .
قلتُ : إنها ، حقاً ، لَبِشارةُ خيرٍ !
لم تخِبِ البشارةُ  ،  ولم تخْبُ ...
( 2 )

بيروت لم تكن ملتقاي الأول مع أمجد ناصر .
في النصف الثاني من السبعينيات  ، نُقِلْتُ بأمرٍ من طـارق عزيز وزير الثقافة والإعلام في العــراق آنذاك ، من  " المركز الفولكلوري "  حيث كنت سكرتير تحرير لمجلة " التراث الشعبي " ، إلى  منصب " نائب مساعد أمين مكتبة "  في دائرة ملحقة بوزارة الريّ  ، تقع قرب السدّة ، غير بعيدة عن " مقهى عرب " الذي كنا نرتاده أيام الدراسة الجامعية .
كنتُ في تلك المكتبة القديمة ، التي تعود أصولُها إلى الاحتلال البريطاني ، وكانت في سابق مجدها  اصطبلاً لخيول العثمانيين .
هناك كانت كتب الريّ ، والسدود ، والفيضانات ، وكتب الرحّالة الأقدمين ، ومشاريع الريّ الكبرى ، المنفّذ منها ، وغير المنفّذ . وكنتُ مكلفاً بمتابعة ترسُّب الطين في أنهار العراق وجداوله ، وتقديم تقارير رسمية إلى جهات رسمية  عن هذا الترسُّب !
كنت أجلس في أعماق المكتبة ، وأقرأ  عن حضارة الأنهار والحروب .
هناك قرأت ، أنا المغضوب عليه ،  " أناباز " زينوفون ...
لم يكن أحدٌ يجرؤ على زيارتي .
أعرفُ هذا ، وأعرفُ ما قد يتعرّض له من يجرؤ على زيارتي .
*
في ضحى أحد الأيام ، قال لي عبّاس ( وهو مساعد أمين المكتبة ، إذ ليس في هذه المكتبة العتيقة أمينٌ )  إن أحداً يريد أن يراني .
قلت له : ليتفضّل .
أمجد ناصر كان الزائر !
عرفتُ منه أنه في زيارة إلى بغداد ، وأنه طلب من المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام أن يراني فسمحوا له .
الحديث محدود ، بالطبع ، فللجدران آذانٌ ، كما يقال ...
أعتقدُ الآن أن موافقة المسؤولين مَرَدُّها  كون أمجد يعمل في مجلة " الهدف " .
ما زلتُ أقدِّرُ للرجل هذا الموقفَ ، فعديدُ زوّار بغداد كان عظيماً  ، أيّامَها ،  لكنـه كان الوحيد الذي زارني في ممتحَني بالمكتبة القديمة لوزارة الريّ !
*
في أوائل الثمانينيات  ، أحسستُ بأني أردُّ لأمجد بعضَ فضلٍ ، حين حملتُ له ، من هند في بيروت ، رسالةً وأشياءَ أخرى ، وسلّمتُها له ، وهو في عدن بالمدرسة العليا للإشتراكية العلمية ...
المدرسةِ التي فرَّ بجِلْدِهِ ، وجَـلَـدِهِ ، منها !
( 3 )

لَكأنّ العقودَ الثلاثةَ التي تمدّدَ عليها شِعرُ أمجد ناصر ،  هي عقود الامتحان القاسي المديد ، إذ جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورٍ كثيرة ،  وانهدمت جسورٌ وقلاعٌ ، وزالت ديارٌ ، وفُتِحتْ أبوابٌ ، وغُلِّقَتْ أخرى ...
في هذه العقود ، تساوى الغثُّ والسمينُ . والمعرَبُ والمعجَم . والناطقُ  بالضادِ وغيرُ الناطق . تساوى محررُ الصفحة والشاعر . الأبيضُ والأسودُ .
وثارتْ عواصفُ كبرى في الفنجان .
" المعاركُ " الشعرية  التي حُسِمتْ في أوربا وأميركا ، منذ قرنَينِ ، ثارَ نَقعُها ، وخفقتْ بيارقُها عندنا  ، أمارةً على موقعنا الفعليّ من التاريخ الثقافيّ والشعريّ  . لقد كان المشهدُ مؤلماً ، ولايزال .
البابُ الوسيعُ الذي كان بإمكان قصيدة النثر أن تفتحه أمام تطور النصّ الشعريّ العربي ، انهدَمَ تحتَ سيلٍ عَرِمٍ من
تفاهةِ  الـمُسَطَّرِ  المجّانيّ ، غيرِ ذي العلاقةِ بالحياة وأشيائها ، واللغةِ وأفيائِها ...
لقد كانت عقوداً  للتخلّف العامّ في أمّةٍ تُدفَعُ خارجَ التاريخِ دفعاً .
أين أمجد ناصر من هذا كله ؟
أعتقدُ أن  الرجل زوى نفسَه  عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك ، وظلَّ يطوِّرُ رؤيتَه وأداتَه ، مستقلاًّ بنفسِه ، لايرفع  بيرقاً ، ولا ينضوي تحت بيرقٍ .
مُقامُه بأرض لندنَ ، منحه مسافةً كافيةً وضروريةً ، للنظر من بعيدٍ ، ولتطويرِ النظر إلى الداخل .
صار يطلّ بموضوعيةٍ على ميراث الشعر في العالَمِ  ، ويقارِن بين ما نفعله وما يفعله الآخرون من شعراء الأمم الأخرى  ، معتمِداً  مدخلَه الخاصّ والخصوصيّ  إلى ما نفعله وما يفعله الآخر .
الفنُّ تعَـلُّمٌ دائمٌ ، مثل ما هو سفرٌ دائمٌ .
وظلَّ أمجد ناصر يتعلّم .
وبينما شُغِلَ كثيرون ببناء أبراجٍ من الملحِ ، ظلَّ الرجل يشتغل بأناةٍ على بناء نصِّه الصعبِ والمختلف .
ونعود ، من جديدٍ ، إلى " مديح لمقهىً آخر "  ، كي نرصد ، عبر العقود الثلاثةِ ،  التحديقَ وقد أضحى أشدَّ شجاعةً ، والنتوءاتِ وقد أمست أكثرَ حِدّةً  حتى لتكاد تجرح من يلمسُها ،  والثقةَ بالنفسِ  وقد برّرتْ حالَها تبريراً مؤصَّلاً .
" يا يحيى
لن تعرفَ نفسُكَ الراحةَ ... "
نبوءةُ الأمّ ، تكتسبُ معنىً وعُمقاً غيرَ عاديّينِ .
وسيظلّ أمجد ناصر ،  تحت الظل العجيب لهذه  النبوءةِ .
الظل الذي يتنَزَّلُ قصائدَ ، مثل غصونٍ مثقلةٍ بالثمار .
الثمارِ الاستوائية !
( 4 )
أ -
في التجلي المتاح الآن ، حتى " حياة كسردٍ متقطع "  ،  تُمْكِنُ للمرء متابعةُ  اهتماماتٍ جديرةٍ بالعناية .
لنأخذ المادةَ الخامَ مثلاً :
أنا أختارُ ، عامداً ،  أقصرَ نصٍّ في المجموعة : ذكرى – ص29
الرصاصة التي أطلقَها من مسدّس والده العسكريّ ( البرشوت )
عندما كان يلهو تحت قوس القيظِ والضجرِ وكادت أن تودي بحياة
أخيه الأصغر استقرتْ في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثيابٍ
اشترتها العائلة وتُركت هناك ( قصداً على الأغلب ) لتظل مادةً
 للكلام عن بِكْر العائلة الذي خرج ولم يَعُدْ .
المادة الخامُ هنا ، غيرُ مُدّعيةٍ . هي مجموعة أسماء جامدة وأفعال . أمّا الفضْلةُ ( النعت هنا ) فقد كادت تلتحق بالاسم الجامد . الوسطى مثلاً في الدرفة الوسطى لا يمكن اعتبارُها فضلةً ( بالمعنى الاصطلاحي السائد ) . إنها جزء من الدرْفة . جزءٌ من الاسم الجامد .
ب _
اعتمادُ الكتلةِ وحدةً :
قد يكون هذا الجهدُ الخارقُ ، المخالِفُ ، المنجَزَ الفنيّ الأكثرَ تواتراً في " حياة كسردٍ متقطع " .
المجموعةُ كلُّها تعتمدُ هذا المنحى الفنيّ .
ليس في المجموعة قصيدةٌ واحدةٌ تأخذ بالتسطير المبتذل .
لقد استُبدِلَتْ بالبيتِ ، الكتلةُ  ( لنَقُل المقطع تيسيراً ) .  ( الباءُ للمتروك ! )  .
ج _
 الصورةُ :
تتشكّل القصيدة من لعبة الصورة .
الصورة هي التي تُعَيِّن حركة النصّ .
قصيدة " فتاة في مقهى كوستا " ص 23  ، يحقُّ لها أن تتباهى بأنها قصيدةُ صورةٍ .
ليس ثمّتَ من كلام في النصّ .
أعتبرُ  " فتاة في مقهى كوستا " إنجازاً فنّيّاً باهراً ، عنوانه  : التخلي عن الكلام .
د-
طبقات القراءة :
في " استعدادٌ للطيران " ص 47
هنا  ، تتجلّى مهارةٌ عجيبةٌ ، توغِلُ في تواضعِها ...
كلُّ  كلمةٍ ، مُشَفّرةٌ ، مثل بريدٍ  ســرّيّ .
لك أن تحاول فكَّ الشفرة ، بطريقتك ، بقدراتك  ، الثقافية أو غير الثقافية  ، وفي كل محاولة فكٍّ ستجد الأمر عجيباً ...
أليس هذا هو الفنّ المتمكن ؟

لندن    29.12.2007