يوميّات على تخوم الرُّبعِ الخالي |
|
2011-02-25 هذا الصباحَ ، وفي نهارنا الأوّل ، بمخيَّم ألف ليلةٍ ، العُمانيّ ، على مشارف الرُّبعِ الخالي ، حاولنا ارتقاءَ نَـشَـزٍ رمليّ . كان الرملُ ناعماً ، أقربَ إلى الورديّ ، يُغري بالمحاولة ، لكننا ( أنا و جوان ) بلغْنا منتصَف الـمرتقى، وعُدنا ، إلى أسفل النشَـزِ ، بسببٍ من شمسٍ شرعتْ تلسَعُ ، ومن قلبٍ شرعَ يدقُّ عنيفاً. نحن في عُمان ، منذ الرابع عشر من شهر شباط الحاليّ ، في زيارةٍ شخصيةٍ ستدوم شهراً ، بدعوةٍ من صديقةٍ كريمةٍ هي الرسّامة العُمانيّة المعروفة نادرة محمود. كنتُ هنا قبل خمسة عشر عاماً. مَن عرفني في الطريق إلى المخيّم؟
البدوية التي مررنا بها ، فقدّمتْ لنا قهوةً وتمراً وحلوى ، هي التي عرفتْني ، البدويةُ اسمُها سالمة . قالت: أنت مررتَ بنا قبل خمسة عشر عاماً . البيتُ كان هناك. وأشارت إلى جهةٍ ما في الصحراء المفتوحة. هذه البدوية لم تَعُدْ في رشاقتها الأولى آنذاك ، لقد طبِّقتْ شحماً ولحماً ، وصار لديها ابنتان ... عبد الله الحارثيّ الذي استضافنا الآن ، هو مَن مرَّ بي قبل خمسة عشر عاماً على خيمة البدويـة . نودِّعُ الخيمةَ وصاحبتَها وابنتَيها ، ونعاود الانطلاقَ . فجأةً تنتصبُ أمامَنا بوّابةٌ من خشبٍ هنديّ ذي زخارفَ ونقوشٍ. بوّابةٌ مفتوحةٌ في صحراءَ بلقَـعٍ. بوّابةٌ مفتوحةٌ على صحراءَ بلقعٍ. بوَابةٌ لا تنغلقُ على شيء . مَن بمقدوره أن يغلقَ صحراءَ على مشارف الرُّبع الخالي؟ إذاً ... لِـمَ البوّابةُ ؟ ربما لتنفتحَ لنا ، ونحن نوشكُ أن نـنفتحَ على أنفُســنا. جوان تأتي إلى الصحراء للمرة الأولى ، هي ابنةُ مرفأ الصيّادين في الشمال البريطانيّ التي عرفتْْ رملَ الشواطئ. لكنها ستكون غائرةَ القدمَين في رملٍ أنعمَ من النعومةِ ، رملٍ أقدمَ من قِدَمِ العالَم. سألتُها : هل حلمتِ بهذا؟ أجابتْ : لم تكنْ لديّ مادّةٌ أساسٌ لحُلمٍ ! أمّا أنا ، فقد كنتُ أشعرُ أنني أدخلُ في أرضي الأولى: هنا وُلِدْنا أُمّةً. وهنا تشكّلَتْ لغتُنا العربيةُ ، أجملَ لغةٍ جرَتْ على لسانٍ. هنا التنزيلُ والتآويلُ. ومن هنا ، من هذا الرملِ ، وعبرَ هذا الرمل ، انفتحْنا على العالَمِ ، وافتتحْنا ، ومَصَّرْنا الأمصارَ. وأتذكّرُ نشيداً لنا في المدرسة الابتدائية بالبصرة : لثراها فضلٌ على الشُّهُبِ وحصاها خيرٌ من الذهبِ لستُ أرضى السماءَ لي وطناً بدلاً من جزيرةِ العربِ * قلتُ لعبد الله الحارثيّ ، هل تجلبُ ماء المخيّم ( السياحيّ ) بسيارات الخزّاناتِ ؟ قال: لا . أجلبُه من الطَوِيّ ! وأشارَ إلى موضعٍ بعيدٍ. " الطَوِيّ " ... قدّرْتُ ، بالطبع ، أنه يعني البئرَ . لكني لم أسمعْ هذه الكلمةَ ، إلاّ في عُمان ، وإلاّ الآن . يا لَرِحلة لغتِنا الجميلة ّ السيارة ذاتُ الدفعِ الرباعيّ تمضي بنا إلى المخيّم ، بينما ذهني يعود بي إلى مظانّ اللغة . كنتُ أستحثُّني لالتقاط شاهدٍ واستعادته. فجأةً تذكّرتُ شاهد شرح ابن عقيل لألفيّة ابنِ مالكٍ : وبئري ذو حفرتُ وذو طويتُ تذكّرت الشطرَ الثاني من الشاهد. قلت لعبد الله ذلك. السيارة لم تزلْ تمضي بنا . وفي التماعةِ برْقٍ خاطفٍ ، استعدتُ الشطـرَ الأوّل ، ليكتملَ البيتُ : فإنّ الماءَ ماءُ أبي وجَدّي وبئري ذو حفرتُ وذو طويتُ . والشاهدُ ، أساساً ، هو عن استعمال أحد الأسماء الخمسة " ذو " اسمَ موصولٍ بمعنى الذي . إذاً ، الطَوِيّ " هو البئر المطويّ . عبد الله الحارثيّ أخرجَ دفترَه ، وكتبَ الشاهدَ ! * عندما اتّصلَ بي ، عبد الله الحارثيّ ، وأنا في لندن ، يدعوني إلى المخيَّم ، قال لي : ستسكنُ حيث سكنَ ملِكُ السويد ! * والحقُّ أن الرجل صدقَ عهده ووعدَه. أسكنني منزلاً اسمُه " بيت الرمل " Sand House شقّة عاليةٌ ذاتُ مَطَـلَّـينِ ، يشرفانِ على الوادي ، ذي أشجار الغاف المعمّرة ، وعلى المساكن والمسالك. كلُّ ما في المكان ، مدروسٌ بعنايةٍ جماليّةٍ : الأثاث السقف الأرائك والـمُـتّـكآت والغَبوق والصّبوح ! أحسستُ بأني مقيمٌ ، حقّاً ، حيث أقام ملكُ السويد! 26.02.2011 لمخيّم ألف ليلة أهلُهُ ، لكنهم ضيوفٌ خِفافٌ كطيور الصحراء . هم لا يقيمون هنا إلاّ ليلةً ويوماً ، ومن النادر أن يقيموا ليلتَين ، ذلك لأن سياحة عُمان غاليةٌ نسبيّاً ، ولأن زوّار مخيم ألف ليلة هم في الغالب من ذوي الصفقة التي تقتضي اتّباعَ أماكنَ منتقاةٍ بعناية ، عبرَ بلاد عُمان. لكننا ، الآن ، في يومنا الثالث ، وغداً سينضمّ إلينا محمد الحارثيّ الشاعر ، شقيقُ عبد الله. اليومَ ، زوّارٌ أقلُّّ : فرنسيّون يلحّون في المساوَمة ، وعجائزُ إيطاليّات ، وآسيويّون مع أطفالهم وكامراتهم . هكذا كان بمقدوري أن آتي بحاسوبي المحتضَن " اللابتوب " إلى المقهى البدويّ ، لأكتب. ماذا أكتب؟ الشمسُ فاترةٌ حتى ونحن في العاشرة . كان ندى خفيفٌ يسيحُ على درابزون السلّم الذي نهبطه من شقّتنا العالية . غيومٌ خفيفةٌ في الأفق ، غيومٌ كأنها مُلاءةُ حريرٍ منشورة على قُرص الشمس . البارحة ظللتُ أتابع من على شاشة " الشرقية " تظاهرات ساحة التحرير ببغداد ، وتظاهرات المحافظات الأخرى ، وقد ضحكتُ لأن محافظ البصرة ( مدينتي ) كان أول محافظ يهرب من مقرِّهِ خوفَ المتظاهرين الغاضبين الذين أساءَ إليهم ، وإلى مدينتهم العريقة . جوان اعتلتْ ، للمرة الأولى ، جَملاً ! أعتقدُ أنها ستظلّ تروي قصّتَها والجمل ، وترويها ، إلى أن تكتبها في أحد الأيام ، أو تُضَـمِّـنَها إحدى قصائدِها . من مَبعَدةِ خمسين متراً تقريباً ، أرى سائحةً من زوّارِ اليومِ ، تعتلي ، هي الأخرى ، جَملاً ... مخيّم " ألف ليلة " حافلٌ بالغرائب : ثَمّتَ سفينةٌ خشبٌ ( من نوع البوم ) ترسو على الرمل. هيكلٌ عظميّ لحوتٍ. وبدوٌ يرقصون رقصةً طقسيّةً على نقر الطبول. هناك أيضاً ، فرانسِس ، القادم من " غُوا " البعيدة ، ليعمل هنا ، على تخوم الرُّبْعِ الخالي ، وليقطع ، أســــــبوعيّاً ،المسافات ، كي يصلّي في كنيسةٍ بالعاصمة مَسقَط ! آنَ جئتُ إلى مَسْقَط ، من لندن الباردة الممطرة ، حيث لا أرى أحداً ، ولا أحدَ يراني ، سوى الشجرِ والطيرِ ،وجدتُ نفسي ، رأساً ، وبلا تأخير ، مع أصدقاءَ أعرفهم . كان ذلك في المطار : نادرة محمود الرسّامة ، وسماء عيسى ومحمد الحارثيّ ، الشاعران. لكنني هنا ، في مخيّم " ألف ليلة " ، وجدتُ نفسي أعانقُ الأرضَ ، وألْمُسُ السماءَ. الشجرُ في الصحراء ، نادرٌ نُدرةَ البشر . والمخيّمُ يتباهى بأنه وسط وادٍ ذي أشجارِ غافٍ معمّرة . الحديث عن شجر الغاف يطول ، كما تطول جذورُ الغافِ ، وتَعْمُقُ ، بُغْـيـةَ الوصول إلى الماء . حدّثني عبد الله أنه كلّفَ رجلاً بتنظيف الطَوِيّ ، وإزالة شوائبِه . يبلغُ عُمْقُ الطويّ أربعين متراً . الرجلُ قال لعبد الله : أتعلمُ ماذا وجدتُ بقاع البئر ؟ لقد وجدتُ جذورَ الغاف ! 01.03.2011 السماءُ التي تعرفها ليست السماء. عليك أن تأتي إلى " رملة الوهيبة " ، وأن ترتقيَ كثيباً ، في المساءِ المبكِّـرِ ، أن تستلقي على الرمل الناعم ، مُرْخِياً رأسك على ذراعيك المتصالبتَينِ وسادةً ، ثم تنظر بعينين هادئتينِ إلى السماء التي كنتَ تعرفُها أيّامَ طفولتك ، السماءِ التي لم تعُدْ تراها منذُ أمسيتَ في تلك القارة الرطبة، القاسية على غيرِ أهلِها . سوف تتذكّر بناتِ نعْشٍ ، أربع عشرةَ بِنتاً ، ولربّما غمغمتَ بأغنيةٍ من أغاني طفولتك الجنوبيّة : بناتْ نعَشْ أربعطَعَشْ ! أحبُّ أن أغمِضَ عينيّ ، بين حينٍ وآخرَ ، وأنا على الرملة الليليةِ . أغمضُ عينيّ ، وأغفو مهدهَداً ، لدقائقَ . أكنتُ أريدُ أن أرحل؟ أرحل بعيداً عن الكوكب ، عن المساء الإنجليزيّ الجهمِ ، عن هذه الرملةِ أيضاً في نهاية الـمَطافِ ؟ لقد طوَّفتُ طويلاً ، وبعيداً ، ربما أبعـدَ ممّا يطيقُ جسدي. الآنَ أريد أن أنعمَ بالراحةِ العظمى بعد جسرٍ من التعبِ ، كما قال أبو تمّامٍ الرائع. هل جئتُ إلى عُمان لأجدَ عِرقاً من عروقِ الرملِ ، عِرْقاً هو هويّتي ومَعنايَ ؟ آخرون قد انطلقوا في هذا العالَمِ باحثينَ عن عروق الذهبِ . لقد وجدوا ضالّتَهم في المـعْدِنِ. لا بأسَ . لا لومَ ، ولا غبطة كذلك. الإنسانُ ، ما حلَّ بهذه الأرضِ كي يقَطِّعَ عروقَها أوصالاً . الإنسانُ حَلَّ بهذه الأرض كي يعمرَها ، ويُنبِتَ عليها جنّتَه المفقودةَ . هل ستظلُّ الجنّةُ مفقودةً ؟ في المخيّم ، تخبو الأضواء . في الساعة الحادية عشرة ، ليلاً ، وكلَّ ليلةٍ ، يتوقّفُ مُوَلِّدُ الكهرباء . في هذه اللـيلة أيضاً ، توَقّفَ. الأرضُ تعودُ إلى سُـنَّـتِها الأولى. ستكونُ أرحمَ ببنيها. الصمتُ عميمٌ. والسيدةُ ، السيدةُ التي كانت ستهَـبُكَ نعمتَها ... لِمَ لم تنصِتْ إلى الصمتِ ؟ لن أقولَ أكثرَ. سأنصِتُ إلى الصمتِ العميمِ . وأظلُّ أنصِتُ إلى أن أهتديَ إلى العِرْقِ الســرّيّ ... ومَن يدري ... قد أغادرُ المخيَّمَ لأحظى بذلك ! ولقد غادرتُ . أنا الآن في مطار مسقَط الدوليّ ، أنتظرُ الطائرة التي ستعود بي إلى لندن الربيع.
|