نظام المثقف التابع وعلاقتُه بتأييد الاحتلال طباعة

سعدي يوسف
يبدو لي أن نظام المثقف التابع ، كان هو النظام الطبيعيّ الذي حدّدَ العلاقة بين المثقف والحاكم : سواءٌ كان ذلك الحاكمُ  نبيلاً إقطاعياً ، أو أمير مقاطعة ، دهقاناً ، خاناً ، ملكاً ، خليفةً ، قائد جيش أو جيوشٍ ، كنيسةً أو كنيساً ، رئيسَ حرفةٍ ما ،  عميدَ مؤسسةٍ للتعليم ... الخ .
بالإمكان القولُ إن تبعية المثقف هذه أمرٌ منطقيّ ، باعتبار أن المتبوع هو صاحبُ المالِ والمـآلِ ، هو المرجعية الأولى والأخيرة في التراتبية الاجتماعية / الاقتصادية  ، وباعتبار أن ذلك المجتمع القديم لم يفرزْ بعدُ من التفاوت الطبقيّ وعلائق

الإنتاج ما يتيح لصنوفٍ شتّى ( بينهم  المثقف ) قدراً من الاستقلالية ، والموقف المختلف ولو جزئياً .
لكننا شهدنا ، مع ذلك ، ضيقَ المثقف والفنان ، ومحاولة كسر الطوق : الهروب من الملك إلى الأمير . الهروب من الكنيسة إلى الملك . الهروب من البلد إلى مستعمراته في ما وراء البحار ، وما إلى ذلك من مظاهر التملمُل . وربما نال المتمردَ أذىً ما بعده من أذى : سجناً وتعذيباً ، و صلباً أو حرقاً  ( أو بالعقوبتَين في آنٍ ) .
ولدينا من الأمثلة ما يكفي : بشّار بن بُرْدٍ ، وغاليلو .
*
يُعتبَر العراق من المجتمعات الساكنة ، إنه أقرب إلى المجتمعات التي وصفَها ماركس ، بأنها مائيّــةٌ .
بتعبير آخر ،  أرى أن تبلور الطبقات الاجتماعية في العراق لا يزال في الطور الأوّليّ . ليس من فرق واضحٍ ، مثلاً ، بين البروليتاريا ، والبروليتاريا الرثّة . وغالباً ما تلبس البروليتاريا لبوسَ البروليتاريا الرثّة ، كما نشهد الآن بكل وضوحٍ .
الطبقة الوسطى لم تترسّخْ ، البتةَ ، لأسبابٍ مختلفة .  والأشكال الاجتماعية المتخلفة الموروثة منذ قرون لاتزال فعّالةً :
بقايا العقلية الإقطاعية ، واندفاع العلائق العشائرية التي جرت محاولة إلغائها تشريعاً ، منذ  نصف قرنٍ أو يكاد . إضافةً إلى هذا كله نجدُ أن التفسير الخرافيّ والغيبـيّ للكون والإنسان ، مع ما يستلزمه من ممارسات وطقوس ،  هو السائد المتّبَع  ، بل هو المتسلط الأكبر .
الأرستقراطية البغدادية القديمة ، بقايا  أرستقراطية الحاضرة التاريخية في الإمبراطورية العثمانية ،  تلاشتْ مع زحف الريف والأطراف على المدينة الجنينية ،  فانتهت هذه الأرستقراطية مع انتهاء المدينة في العراق الحديث  .
العراق بلدٌ بلا مدُنٍ .
إنها الطامّة الكبرى !
*
منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات ،  شهدْنا اصطفاف المثقف إلى جانب الحاكم ، حتى وإن كان هذا الحاكم أجنبياً ، جِيءَ به  مع جنود المستعمِر ،  وبعدَ القمع الدمويّ بالنار والغاز السامّ  لثورة شعب .
الحاكمُ هو بيتُ المالِ ، وهو المآلُ في الوظيفِ العامّ .
حدثتْ استثناءات :
محمد باقر الشبيبي
محمد رضا الشبيبي
علي الشرقي
الرصافي
الجواهري ...
مِن هؤلاء  مَن توقّفَ في منتصف الطريق .
الرصافي مضى في الطريق إلى آخره المأساويّ ، وقضى في الفلوجة مبعَداً  .
وكذلك فعل الجواهريّ ، ليُدفَنَ مع زوجته  ، في مقبرة الغرباء ، بالسيدة زينب ، من أرباضِ دمشق .
هل اختارَ سركون بولص هذا الطريقَ ، بلا ادّعاءٍ ؟
*
لم يكن الحاكم هو المتبوع الوحيد .
فالأحزاب العراقيةُ  يمكنُ إدراجُها في قائمةِ المتبوعِ الطويلة .
ومن المؤلم أن هذه الأحزاب  تعاملت مع المثقف والثقافة تعاملاً براغماتياً خالصاً ، تعاملاً ألغى استقلاليةَ المثقف وتأثيرَه في المجتمع العراقيّ  .
لجأَ المثقفُ إلى هذه الأحزاب  ، هرباً من السلطة ، ليجد نفسه أمام سلطةٍ  أشدّ  عسفاً  من الحكّام الفعليين .
وحين صار الحزب حاكماً مطلقاً بالفعل ( البعث مثلاً ) ، أُلحِقَت الثقافةُ به إلحاقاً ، باعتباره قائدَ المجتمع أيضاً ،  فقُضِيَ تماماً على أي إمكانٍ  لاستقلالية المثقف ،  ونُصِّبَ أمّيّونَ متحمسون قادةً لتنظيماتٍ ومنظماتٍ " ثقافية " .
مثالُ حزب البعث  يمكن تعميمُه على الأحزاب الأخرى بلا استثناء .
المثقف يتبع مصدرَ رزقه .
وطُبِّقَ بصورةٍ فاجعةٍ المَـثَلُ القائلُ : جَوِّعْ كلبَكَ يتبعْكَ .
كان الشراء يتمّ بثمنٍ بخسٍ  ، نكايةً وتشفّياً .
*
وأخيراً ، جاء الاحتلال  ؛ ودخلَ مع دباباته وطائرات نقلِهِ  مثقفون عضويّون ،  هم الأدلاّءُ  المتدرّبون المجرَّبون .
كانت مهمّتهم الأساسُ تمهيدَ طريقِ التعاون بين سلطة الاحتلال والجسم الثقافي العراقيّ المهتريء المنهَك ، الضامر جوعاً ، والحائرِ في ما رأى من عجبٍ وضنَكٍ طوالَ عقودٍ ...
منظمةٌ ذاتُ تاريخٍ وطنيّ عريق  ، مثل " اتحاد الأدباء "  ، تنضمُّ إلى هيئةٍ خارج العراق ، يديرُها شخصٌ عيّنه بول بريمَر  رئيساً  لـما سُمِّيَ " المجلس الأعلى للثقافة العراقية " .
" اتحاد الأدباء " ذاتُهُ  يتولّى تقديم استماراتٍ يكون أصحابُها على قوائم الدفع لدى المؤسسة المحلية الكبرى لسلطة الاحتلال ، مؤسسة المؤسسات في " منظمات المجتمع المدني " التي تعمل على تعبئة المثقفين والناس ، لصالح الاحتلال ،  وتأطيرهم في خانة الراضين به  ، وبحكومته العميلة ، تحت اسم  " صندوق التنمية الثقافية " .
رئيس " اتحاد الأدباء "  يكتب أطول نصٍّ في حياته  ، عن ضرورة التعاون مع الاحتلال وسلطته المحلية العميلة .
ويُسَــلِّمُ دروعاً إلى عملاءَ نُصِّبوا  وزراءَ .
البطالة ، بطالة المثقفين ، شاملةٌ .
إن لم تكن أيها المثقف تابعاً ، متَّ جوعاً !
فإنْ صرتَ تابعاً ، تولاّكَ  الـخَـرَسُ .
لكَ أن تكتب ، مؤيداً ، عارفاً بالخطوط الـحُمرِ ، تسمّي الاحتلالَ تحريراً  ،  وتسمّي سلطةَ عملائه حكومةً عراقيةً .
إنْ خالفتَ  أتاك ما أتى آخَرون من قبلِكَ : طلقةٌ واحدةٌ في مؤخرة الرأس .
طلقةٌ واحدةٌ في مؤخرة الرأس ، ها هي ذي الرقابة الجديدة .
كان نبيل ياسين في منتهى البراءة حين دافع في " بيت الشِعر " ، في نيويورك ، عن الوضع الحاليّ قائلاً : ليس في العراق رقابةٌ !
*
الزلزال الأعظم .
الزلزال المستمرّ منذ 2003 .
الزلزال الذي يهدد بحربٍ عالميةٍ ثالثةٍ ...
هذا الزلزال لم يهزّ المثقف العراقيّ التابع  .
يا جبل ، ما تهزّك ريح ! 
*
عقودُ التدمير الذاتي الثلاثة ، وما تلاها من احتلالٍ شرسٍ أجهَزَ على ما تبَقّى ...
هذا كله ، أزالَ ، تماماً ، البِنْـيةَ الثقافية .
لم يَعُدْ في العراق ثقافةٌ وطنيةٌ يُعتَــدُّ  بها .
ثمّتَ أنقاضٌ ونقائض فقط .
*
هل من بديلٍ ؟
بالتأكيد ...
البديلُ هو في ثقافة المقاومة ، ثقافة تحريرِ التابعِ  !

                                                لندن30.10.2007