قــــرنٌ أم نـــصفُ قــــــَرنٍ ؟ طباعة

 ســعدي يوســف
 يَـعْقدُ جون هوبَر  John Hooperفي كتابه المرموق ( الإسبان – بورتريت لإسبانيا الجديدة ) ، أكثر من فصلٍ
 متناولاً الإشكالات الثقافية بعد زوال حكم فرانكو الذي استمرّ أربعين عاماً  ، ويبيِّن الكاتب بالتفصيل طبيعة الحياة الثقافية أيام فرانكو الطويلة ، وقواعد الرقابة ، ومحاربة الكنيسةِ  المسرحَ  ، ومواقف الكتّاب بعد تراخي دكتاتورية الفالانج  ، بين عائدٍ إلى البلد ، ومُطِيلِ مكْثٍ في المنفى  ، إلى كل ما قد نراه  يماثل الحال الذي  نحن  فيه .
يقول جون هوبر " كانت إسبانيا 1936 بمثابة قوّةٍ كبرى إبداعـية . لقد أعطت العالم ثلاثة من أعظم فنانيه المعاصرين : بيكاسو ، دالي ، ميرو ، وهي تفتخر  بمؤلفين موسيقيين  مثل مانويل دي فايا  ، وروبرتو جيرهاردت الكاتالاني ، وجواكان رودريغو ... وفي الأدب ... جيل98  ، ثم جيل الـ27  : لوركا ، ألبرتي ، بيثنته ألكسنره ، بيدرو ساليناس .
لقد وقف معظم فناني إسبانيا ومثقفيها مع الجمهورية  ضد القوميين .
لكن نهاية الدكتاتورية لم تُعِدْ إسبانيا إلى موقع الطليعة الفنية والثقافية . كانت إسبانيا مثل رياضيّ مكبّلٍ ، مثقلٍ  ، ينتظر الانطلاق ، في رأي كـتّابٍ معيّنين ، لكن فاتَ أولئك الكتّابَ أن هذا  الرياضيّ  قد ترهّل َ وساخت عضلاتُه .
النهضة الإسبانية الجديدة لم تتحقّق ، وسيحتاج الأمر إلى قرنٍ أو نصف قرنٍ للشفاء من آثار دكتاتورية استمرت أربعين عاماً  ".
*
بين 1963 و2003 أربعون عاماً  عراقيةً ، تكاد تكون خالصةً لدكتاتورية البعث الدموية .
وقف معظم المثقفين والفنانين ضد دكتاتورية البعث .
وطُحِــنوا طحناً ، في زنازين  السجون ، وساحات الإعدام ، وفيافي المنافي .
وبالمقابل ، مع مَــرِّ السنين والعقودِ ، انخرط مثقفون وفنانون كثيرون في المنظومة الثقافية / الإعلامية لسلطة البعث .
الأسباب كثيرة ، لكنّ أهمّها ، في رأيي ، السلامة الفردية تحت السيف المصلت لنظامٍ لا يرحم حتى مؤازريه .
الأمور تبدأ هكذا ،  إلاّ  أن للانخراط قوانينه  ، وسوف يتحول طلَبُ السلامةِ إلى قناعةٍ . ومن هنا نلحظُ أن المثقفين البعثيين ، في المهجر ، لم يقولوا كلمةً واحدةً عمّا جرى ، كأنهم غير معْنيّـين ، أو كأن عراقاً غير بعثـيٍّ ليس عراقاً مســمّىً . لقد تحوّل الشعراءُ البعثيون ، في المنفى ، إلى متصوفةٍ كاذبين ، ومقاولي جمعياتٍ ثقافية ملفّقة في هولندا وسويسرا وبلجيكا  وسواها من بلدان الملجأ الأوربي . .
*
الفنانون والمثقفون اليساريون الذين كانوا السبّاقين في الهجرة ، استطاعوا في السنوات الخمس الأولى الحفاظَ على موقفٍ سياسيّ وأخلاقي واضحٍ وممتازٍ . كما أفلحوا في التوصل إلى صيغةٍ ما للتنسيق والاتصال  في ما بينهم ، وإن لم يفلحوا في تطوير أدواتهم الفنية  ، وبخاصة في الموسيقى والغناء والرسم والنصّ الشعريّ والمسرح ومحاولات السينما .
وهنا قد نجد تبريراً في طبيعة العلاقة  ( السلبية في الغالب )  بين المنفيّ والمنفى .
*
هذه المراوحة  في المكان والمكانة أفضتْ إلى هشاشةٍ في التكوين الفكري والثقافيّ ، هشاشةٍ جعلت المثقف اليساريّ في مهبّ الريح ، حتى لو كانت خفيفةً .
وعندما بدأت الإدارة الأميركية في الإعداد الجدّي لاحتلال العراق ، بعد 1991 ، عمدت أولَ ما عمدت إلى شــراء المثقفين اليساريين بخاصّـةٍ. ولم تجد الإدارة أي صعوبةٍ هنا ، بسبب ما ذكرتُه من هشاشةٍ ، بل أن عملية الشراء لم تكلِّفْها كثيراً من المال : مائة وخمسون دولاراً فقط  ،  في الشهر ،  للمثقف الواحد !
 ( وهناك قصصٌ تروى عن إضراباتٍ تطالبُ بهذا المبلغ التافه إذا تأخّــرَ ... ) .
*
ليس مستغرَباً ، إذاً ، أن يصمت مثقفو بلدٍ حتى الآن ( اليساريون منهم والبعثيون  ) ، على احتلال بلدهم ، بالرغم من كل المجازر التي يرتكبها المحتلّــون يومياً .
*
صحيحٌ أن حفنةً من رجال الدين والسياسيين الخونة ولوردات الحرب الأوباش  عقدوا الصفقة الأساسَ لإعادة استعمار البلد .
لكن من الصحيح أيضاً القولُ إن المثقفين ، بعامّةٍ ، أسهموا ، ويسهمون ، حتى اليوم ، في تأييد استعمار بلدهم وإذلاله
ونهب موارده .
لم يحدثْ ، قطُّ ، في تاريخ الثقافة العربية الحديث ، بل في تاريخ هذه الثقافة بإطلاقٍ ،   أن خان مثقفون بلدهم  ، مثل ما خان المثقفون العراقيون ( بعامّـةٍ  )  بلدَهم ...
بالـمَـجّــان !
لقد وقعوا تحت رعبِ قوائم القبض التي يهدَّدون بنشرها ، لو اتخذوا موقفاً مخالفاً الاحتلالَ ...
 بل أن التأطير لا يزال مستمراً ، تحت مسمّياتٍ جديدة ، مثل " لجان دعم الديموقراطية " ! ، والمنظمات غير الحكومية ، والجمعيات  " الثقافية "  ،  أو جمعيات الجالية  ،  التي تؤسسها سفارات إدارة الاحتلال مثل تلك التي في السويد وألمانيا والمغرب  وهنغاريا  وبلدانٍ عدّةٍ أخرى .
*
أقرنٌ ، إذاً ، أم نصفُ قَرنٍ ؟   

                                       لندن 6.8.2006